17شمروخ الأراجوز
شكشكة شعرية غير دورية بالفصحى العامية

بكرة أجمل من النهاردة
مع الإعتذار لصلاح جاهين
الشمس صبحت بليدة صار القمر أرزل من الوردة
شجر الكافور إنهطل .. والريف بقى أهبل وساق العوج
هجر غيطانه لأخيب ما رأيت ألوان .. وأغبى ما نطق إنسان
إنجن طعم البلح حزنا على النخلة .. النخل هايف مخوخ فاقد الإتزان
النيل صبح منظره بيقلب الأحزان .. شى يا سيد يا بدوى - طعنى فى مقتل
ماتت سعاد حسنى .. وصلاح جاهين انتحر
وعيون أبويا سليم كل فيها الضحى .. ومال شراع السفينة فى رياح العدو
الشعر صار أهطل .. بوخ ورنخ فى الكتب والبوح
متلخلخ الأوزان عديم الروح ومتقلقل .. عايز لسان أتقل وعملة صعبة
من أجل يمدح سيادته .. يشكر مسار التاريخ التى وصلنا لفريد وقته
عصر الأمان الكامل الأشمل - عصر السكون الزؤام وحده على القبة واضح متزن .. أعقل
بيحكم العقل لما ساعات يزن عليه .. يوزع ع الأكمل وع الأصعب من الأسهل
راخى حبال الهلضمة بإيديه صبح نأطول عريض بقد الوطن .. لا يكل ولا بيمل ولا يتعب
عنى صحيح البدن صاحب نظر واعى .. كل الخيوط فى إيديه بلا داعى
الكل أعمى يا أعور هو وحده بصير .. لكن لحكمة يبان للحاقدين احول
راقم كصقر الفلا كل البلا الأسفل فاقبل قدر ربنا إنك كئيب جاهل
قبيح طباع زيى متخلف - ولا تخجل مادام سعادته سعيد فرحان بعمره المديد
اللى عشان الأحبة يعيده م الأول .. وثق فى رأيه السديد .. بأن بكره أكيد
ح يكون معاه أجمل ... ويا عجبى

فزورة ثقافية
· إزاى اشوفك شاعر وانت ضئيل وصغير على حسب ما بتدق الريح ابوابك تتغير كام كدبه يوماتى .. وكان مرة اتعرت عورتك شوف صورتك فى مراية الناس تتحسر
· لساك بتلمع شعرك من ورنيش العسكر
نهنهات المشيب
الشوارع زحمة ولا سوق الخضار
والأوادم هبو تكريعة حمار
فين يا ريح العصف - صرصر
أو هبوب .. تنزعى توب اتصبغ
م القهر - عار ... قد تخضر - زلزلة
الأرض البوار على رصيف الوطن
.. ونبوس ايدينا وش وضهر
الحمد لله المتعال عنينا مش مكسورة وعال
لا خدمنا يوم حدا رأس المال ولا ارتضينا براحة البال
لا قلنا للعسكرى باشا .. ولا نافقنا البكاشه
ولا عشان صحن بغاشه زورنا مفاتيح للأقفال
رضينا برغيفنا العرقان ولسانا كان للحق حصان
من غير لجام لكن فنان فؤاده منبع خير وجمال
لا أكلنا من لحم صحابه ولا والسنا مع ديابه
ولا جورنا على حق غلابه لا بالكلام ولا بالأفعال
عيشنا ما نقبلش الكوسة ولا الفلوس الممسوسة
ولجل مصر المحروسة شيلنا العصا ليمين وشمال
فاعذرنى يا للى انت فاهمنى وجاى بخبث بتتهمنى
أنا مش بضاعة تتمنى لو أعمى ح تشوف م الغربال
احنا كده وعينى تنف عينك وميت سبب بينى وبينك
لألف عله كارهينك كفاية لغك فى البطال
إن كان لى حق عوضنا عليه وإن كان لك أنت قول لى ف إيه
لو حتى ما أعرف اسمك إيه ح ازعق عليه وياك فى الحال
تلقى عصايتى بقت شومة تدق رأس أى حكومة
الموته إيه غير النومة لا تنين وسيلة لراحة البال
حصاد الهشيم
سنابل القمح فى ايديكو سلاح للموت
والدم حجة فى شرعكم للسلم لم الخرابيش
جرحت الحلم يا عكروت
الكاهن الأمريكانى كتب نهاية الفيلم

أراجوزات مصرية
ذاك الذى
لو كان حداه حبة نظر .. كان يستقيل
لكن ضميره من البطر .. بقى نص ديل
مستور بغلطة م القدر .. فى ليل طويل
لا طالع له فجر ولا قمر .. من ألف جيل
عودنا على صمت الشجر .. صبر النخيل
حين طمنوه أن الخطر .. بقى مستحيل
وان البشر رمل وحجر .. بقى مستحيل
سلمها لرعاة البقر .. مسكين يا نيل
أعمانا مع قصر النظر .. عن البديل
شكشكة فى حب مصر
كل هذا اللى أنت شفته من سكوتك
كل شئ مرهون بوقته حتى موتك
لما هان بلدك عليك هنت قبله
كله كان صنعة إيديك حتى هبله
خيبت يوم ريحت نفسك م المناهدة
سيبتهم يمضوا بإسمك ع المعاهدة
والنهاردة جاى بتشكى نقول يا ريت
بكرة ياما لسه تبكى ما جنيت
يفرق إيه باراك شارون ما اتخيروش
كله سايق فى الجنون وبأمر بوش
أحنا فى شرعه سيادته درجة تالتة
مش مزاجه ولا سياسته عقيدة ثابتة
قالها فوستر بيه دالاس جون الهمام
الشعوب دى كما الفرس عايزين لجام
واللجام محتاج لحكام يشكموها
دا تراث تاريخى أصنام يعبدوها
والصنم يجهز بتاجه أو برتبة
ع القانون يدوس مزاجه بنص ركبه
وانت شايف واللى عارف لا يعرف
اللى عاش العمر خايف صار يقرف
خيبه من بره وجوه وبرضه راضى
لا بقى عندك مروه ولا أراضى هموم على لحن مصرى
أحزان الجميز الباط
يبست أشجار الأيام على شط الحزن .. اتفحم اتفحم زهر العشرة وحق أوان الصمت
سقط ريش الوقت المسروق .. اتمطى الخوف فى حوش اليأس ونام
راجع من سوق المدن المكسورة الخاطر .. بأغانى قوافيها تراب
تشد الخطوة من غيم دخان الأمس تعد الملاليم الباقية من مشاوير الحلم - عذاب
حلمك عت كمل البشت القطن وداب فاكر إنك لو ما سلمت - سلمت
بتلوم نفسك لو كنت سرقت الفرحة من الكدب أو كنت عصرت على عكارة عنبك عناب .. ما كنت ندمت .. كنت قدرت نطقت مديف فى الطمى جدورك ورقت
جبرت بخاطر عصافير القمح وبوابات اللبلاب وكإنك ما عرفتش أن حبيبتك
تاجراسك .. حلت ضفايرها لأول من دق على الباب .. يا قلب أمها - ما ساومتش
على سلو العمر الجارى .. وما شرطتش ما كانتش جعانه ولا كانت قلة عشاق خطاب
ما كنش بتصبغ عشان تستر عرض يتامى الحى المفاعيص يا جباير جبرها
طهقت من قلة فهم الأرياف . م اللؤم الزاحف فى شقوق الغلب صعايده
لودها حنينك للمواويل العاجزه حتى عن خضرة ورق الصفصاف نشف ريقها البلح الصيص والجميز الباط
فضلة خير الجيل الجاحد جيد العمل الثورى اللى الدنيا اتسرقت منه
زى عوازى سنباط .. جرحتها اللقمة حلال الحاف .. مدت رجلها للراحة ما لقيتش لحاف
قرصت قلبها حرقة ذنبها .. قهرها .. حزنها .. غنها .. إنتهى وقتها .. عمرها منها
تحرس أشجار ما بتطرحش .. ترضع أطفال ما بتكبرش
تعشق رجاله محشيين من الرأس للساس القش .. بقش .. والدنيا ما بتسيبش الخلق فى حالها
وانت زى ما إنت قد الجحش صغير زيه وما بتفهمش ... إن الدم اللى ما بيسيلش .. بيتخثر...والجرح اللى ما بيحزنش .. بيحسر والحلم اللى ما كانش مرايه وقبقاب - اتكسر
انات اللى ف كتمة نفسك متعتر .. عداك اللوم .. فى الهم بتتمنظر
بتفسر وانت يا دوبك بتدق أبواب الصبح ومأزوم .. مش معترف إنك خارج بقصيدتك
من غبرة أول عركه ... مهزوم
دا اللى مش عادى شعر نديم الشاذلى
عادى إنى أكره أبويا وامى .. ساعات
واكون جبان أو ندل .. واحتقر نفسى
وعادى ؛ إنى انكسف اكتب كلام ع الورق
وعادى ؛ غنى أحب نالفن . دا كله عادى وساعات
***
زمان .. الميه كانت مقطوعه
أبويا واصحابه .. اتيمموا بتراب الوطن
وانا النهاردة .. نفسى اصلى والميه عكره .. زى المجارى
ولا باقى من تراب الوطن .. غير حبة زلط وحصاوى
والعجيب .. إن ابويا وصحابه
ماكانوش بيصلوا
***
هوه عادى .. إنى اوه .. وانا رايح لصاحبى
لإنى مش أروح له وعادى .. إنى أبوح بعينيا
وما تكلمش . واكلم نفسى
ونفسى ما تسمعنسش
واسد ودانى واتغابى
***
عفريت فى علبة .. طلع لى
وما تخضيتش وما فرحتش
سألنى : شبيك .. لبيك ؛
أنا عبدك وملك إيديك وانت عبدى وملك غيديا ؛
لو تطلب حاجات مش ليك ما فهمتش
قلت له : نفسى ابقى زيك
قتلنى .. بس مات عاطل
***
وعادى .. إن الشاى بالحليب
ما يكونشى فيه سكر . شاى .. شربته قبل المذاكره ؛
وانا مستاء وحليب .. رضعته من أمى
وانا مشتاق .. لكلمة صدق قبل الفطام والفراق
يمكن تحلى الحليب .. ويمكن تحلينى
الصدق وللا التراب ..؟! يمكن يحلينى
أقوم اصلى الفجر .. وده اللى مش عادى
***

على هامش السيرة الهلالية

أول بداية القول
الحمد لله...
الذي جعل سيرة الآباء وتاريخ الأجداد... عبرة تنير طريق الأولاد، وخبرة يتوارثها الأحفاد، ولما كانت سيرة "بني هلال" من أجمل ما رواه الرواة، ومن أحلى ما تغنى به الشعراء في الأفراح وليالي السهر وأمسيات السمر، وتناقلتها الأجيال عبر السينين، وحفظتها ذاكرة المصريين وغير المصريين، لذا وجدنا أنه واجب لا غنى عنه أن نعيد رواية أجمل ما جاء فيها من حكايات إنسانية وصور ونماذج بشرية في أكثر مناطقها وأحداثها درامية.. في صياغة جديدة تناسب مزاج الأجيال الجديدة وبطريقة ممتعة ومفيدة، محاولين الاحتفاظ لها بطبيعتها القديمة الفريدة.
لكي لا نتوه في تفاصيلها العديدة المتعددة المديدة.. باختيار المناسب من بين تلك التفاصيل، ماله معنى إنساني خالد ودائم، وما يحمل من سمات الصراع الدرامي بين الخير والشر وبين الموهبة والغربة.. بشرط ألا يغفل هذا العدوان وأحلام العيش في سلام، وما بين حب الوطن وآلام الغربة.. بشرط ألا يغفل هذا طرافتها وسحرها وغرابتها... ولا نهمل ما بها من متعة وإثارة... وغير ذلك من السمات والصفات التي جعلت منها سيرة متفردة بين غيرها ومن السير الشعبية التي حفظتها لنا ذاكرة الشعب وبحيث يقرأها الصغار والكبار، فلا يملون ما احتوت عليه في شكلها القديم، من تفصيل وتكرار، ولا يفقدون مع الصياغة الجديدة ما كان لها من سحر ولا ما احتوته من أسرار ولا ما ذخرت به من قيم وأفكار.. وما حوته من إثارة وتشويق، وبطولات وشخصيات حية مؤثرة.. لننعش بها ذاكرة الأجيال الجديدة، ونضع في عقولها بصيصاً ولو خافتاً من الاستنارة... والإيمان بإنسان هذا الوطن على مر الأزمان.
سائلين الله أن يمدنا بالصبر على تحمل الجهد الذي تحتاجه المهمة، وبالقدرة على حمل الأمانة وما تتطلبه من صدق وهمة.
بشارة النصر ولعنة الشتات
اندفع هلال بن عامر خارجاً من الخيمة بحثاً عن نسمة هواء منعشة ترطب صدره في هذا الليل الحالك السواد، وتزيح عن نفسه الانقباض الشديد الذي يعصر قلبه المحاصر بالترانيم الحزينة تهمهم بها النساء في الخيمات المحيطة المجاورة.
ما بال هؤلاء النسوة ينحن هكذا في استقبال المولود الجديد ؟ كأننا نزف أطفالنا للموت قبل أن يتنفسوا أول أنسام الحياة.. ما هذا الفأل السيئ؟
كان الجميع ساهرين فرحين ينتظرون مولود ابنه الأول، لكن النغمة الحزينة التي طاردته إلى الصحراء.. كانت نفسها التي تودع بها النسوة قتلى القبيلة وموتاها... فأخذ يبتعد موغلاً في ليل الصحراء في محاولة عقيمة للخروج من أسر هذا الشجن الرهيب، الذي جعل الليل عديم القمر أكثر عباً وظلمة.
ميراث ثقيل..
ورثه الأبناء عن الأجداد من التغلبين والبكريين.. الذين ظلوا يتقاتلون أربعين عاماً أو تزيد فيما بينهم طلباً لثأر مستحيل.. اشتعلت من أجله حرب البسوس ليروح ضحيتها الآلاف من أبناء وبنات القبيلتين خلال سلسلة طويلة عنيفة من عمليات القتل والقتل المضاد... بعد مقتل ملك التغلبيين كليب غيلة على يد جساس فارس البكريين بتدبير عجوز النحس الماكرة انتقاماً لمقتل أخيها التبع اليماني، فأوقدت ناراً لا تنطفئ يزيد اشتعالها الدماء التي تسيل كل يوم على الرمال بحاراً تفيض قبل أن تغيض.
فما العجيب إذن أن يصبح استقبال المواليد الجدد طقساً حزيناً، فالجميع من نسل القبيلتين على حد سواء رهينة للموت قتلاً.. طال بهم العمر أو قصر.
أربعون عاماً كان هذا هو المصير والقدر..
قدر محتوم لا هروب منه ولا مفر حتى شلت الأيدى وكل البصر، فما العجيب أ، يصبح الحزن غذاء يومياً للروح حتى في ساعات الفرح..
همس هلال بن عامر بهذا لنفسه وهو يتأمل بؤر النيران المتفرقة وسط مضارب القبيلتين.. تحاول أن تخفف عبثاً من ظلمة وبرد تلك الليلة العديمة القمر.
لكن السؤال لم يجد إجابة إلا في تلك الآهات الحرى التي انطلقت من بين شفتيه تغالب دعواته الهامسة أن يكون المولود القادم ذكراً..
قال الراوي:
لما غزا التبع اليماني بلاد تغلب وديار بكر اختطف جليلة أخت جساس البكري وزوجة كليب التغلبي.. شقيق الزير سالم أبي ليلى المهلهل.. ليتزوجها غصباً فاتفق الثلاثة على تحريرها وقتله انتقاما لشرفهم المهان.
وحددوا الوقت والزمان.. ودبروا التسلل إلى خيمته – بمساعدة جليلة- ذات ليلة حانكة السواد، متخطين كل ما أحاط به نفسه من رجال وعتاد.
فلما أحس بهم.. وبالموت الذي يترصده على حد سيوفهم.. تنبأ لهم في إصرار من يكشف ويعرف الأسرار.. أن من سيقتله منهم قبل غيره... سيكون السيد على الجميع ويكون الكل عبيداً رهن أمره.. قائلاً في صوت ضحية محاصرة.
- ضربة السيف التي ستشق قلبي... ستحدد مصير الملك من بعدي.. من يقتلني يملك عرشي!
هكذا قدر وهكذا سيكون... العرش والتاج حق للقاتل وحده..
وانتبه الزير سالم لمكيدة التبع التي يريد بها أن يبث بينهم الفرقة ويجعلهم يتقاتلون ويقتل بعضهم بعضاً.. فاتفق على قتله في الظلام بضربة واحدة... ليقتلوا معده بذرة الخلاف التي ألقى بها في حقلهم.
وكأنما الأقدار كانت تسخر منهم.
إذ اعترف كليب بعد أن أجلسوه على العرش.. أنه لم يضرب التبع بسيفه.. إذا تملكه حين أ"فأ الزير النور في الخيمة.. رعب شديد بسبب الظلام.. فشل يديه، لكنهم لم يعيروا اهتماماً لهذا الاعتراف الفاضح الفاجع..
واعتبروه من باب الزهد في العرش أو من ضرورات التواضع، إذ كان انتصارهم على التبع وتخلصهم من سطوته.. كافياً لصرف الأنظار والنفوس عن التأمل والتحقق من مقولته.
لقد وحد مقتل التبع بين بكر وتغلب... وهذا يكفي..
كما تمكن سالم بحكمته، أن يقنع جساس بالموافقة على أ، يصبح كليب – زوج شقيقته- الملك الذي سيوحد الجميع تحت مظلتها ومظلته.
ولكنه قلب جساس لم يعد صافياً تماماً، إذ تملكه إحساس قوي أنه قد غرر به، فلم يعد ينام إلا لماماً...
ولما كان التغلبيون هم أهل الحرب والقتال وهم الأقوى في العتاد وفي الرجال، ولأن البكريين في العادة كانوا أهل الرعي ورعاية النخيل وتطهير الآبار والاشتغال بشئون الكلأ والأرض.. ظل في قلب جساس شيء ما ... دفيناً.. يدفعه إلى عدم الرضا والخضوع ويغريه بالرفض.
وقانا الله وإياكم شر الخضوع للغرض الذي هو في الحقيقة وقوع في أسر المرض
أشعلت العجوز الحقود وقلبها محروق.. ملآن بشوق الانتقام لأخيها.. قالت لجساس: أجرني.. صرت بلا جيرة.. وأنت سيد قبيلتك ولك حرية الخيرة، أم أنهم من سلطتك جردوك.. يوم سرق الكليب حقك في الملك وحرموك..
وأشعلت العجوز في قلب جساس ناراً كان يحاول إطفاؤها.. فصار يلعنها ولا يهتم بإخفائها.
وصبرت العجوز حتى سنحت لها الفرصة التي تنتظرها.. فأطلقت ناقتها البسوس في كروم وبساتين كليب تأكل من أشجارها.. فتصايح الحراس عليها ولحقوا بها وعقروها.. ولما تصدت لهم العجوز ضربوها.. فمضت تولول وتستجير بالناس وتعلق إهانتها في رقبة جساس.
واعتبر جساس ما حدث إهانة ما بعدها أهانة..
فمضى غاضباً إلى كليب طالباً ما سلب منه من مكانه.. تلك التي لم تعد تساوي عنقود عنب وكرم دمرت أغصانه.
وكلما حاول كليب تهدئة جساس... زاد غضبه وطالب بدم الحراس.. فالناقة وصاحبتها في جيرته.. وتحت حمايته..
ولما سخر كليب من هذا الطلب غير المعقول..
طعنه جاسس طعنته المهول.. التي أشعلت الغضب في القلوب والعقول..
وظلت نارها مشتعلة لأربعين عاماً وقودها الأرواح والنفوس.. فيما عرف عند العرب بحرب "البسوس".
وأعلنها الزير سالم: "لا أصالح.. إلا أن يعود كليب حياً.. يطلب العدل المستحيل.. فأرسل الآلاف من أبناء تغلب وبكر إلى الموت جيلاً بعد جيل.."
وغطت الصحراء نيران الغل والغضب..
ولم يستطع أحد إطفاء اللهب فصارت أغاني الفرح تعزف على ألحان الحزن.. فالأطفال يولدون وقد عرفت مصائرهم.
وتعلموا وتفننوا في فنون القتال... وظل القتل والقتل المضاد بين بكر وتغلب.. يطارد القبيلتين كالقدر المهيمن والمعذب، ومادام الموت قد أصبح شغل الجميع الشاغل.. تركوا أمور الحياة في يد العبيد والإماء.. فجفت المراعي وردمت الرمال عيون الماء.
وسبحان من له ملك الأرض ... والسماء
ابتعد هلال بن عامر كثيراً في جوف الصحراء وعمق الليل، ولكن لحن الحزن ظل يلاحقه ويحاصره..
صاعداً مع زفرات قلبه لرأسه ملاحقاً مشاعره.
فهو نفسه قد ولد يوم موت جده هجرس بن كليب المقتول غيله.. وكأنه يؤكد للقبيلة ثنائية الموت والحياة.. الميلاد والقتل ودورها في رسم مصير القبيلة.. ما الغريب إذن أن يلون الحزن ألحان الفرح.. ألم تكن تلك الأنغام الحزينة هي التي تفتحت عليها أذنيه.. حزنا على موت جده في نفس اللحظة.. ليمتلأ قلبه الغض منذ مولده ويفيض بكل هذا الألم والشجن الذي تثيره هذه الصحراء الملعونة.. المسكونة بأرواح القتلى من الجانبين.. عبر سنين تطارد بإصرار وعناد كل الأحياء بأنين أشباح الميتين من ضحايا.. وقاتلين.
وفجأة.. صمتت موجات لحن الحزن، وارتفعت صيحات البشرى بقدوم المولود، والتقطت أذناه على البعد بشارة مجيء الولد الموعود.. فافتر فمه عن ابتسامة ونزلت من عينه دمعة تعبر عما يجيش في صدره من فرح.. وقال:
- المنذر... نعم هو المنذر ولدي. مرحباً بك يا منذر، كم أحلم أن أخرجك من دائرة الحزن والموت هذه يا بني.. نعم لابد أن يكون عالمك أكثر بهجة وفرحاً.. ولنكسر بقدومك حلقة الموت الوحشية.. وليكن من أجلك عالم تسوده المحبة.. والسلام!!..
قال الراوي:
كان الإسلام قد بدأ ينتشر في ربوع الجزيرة ودخل الناس أفواجاً في الدين الجديد الذي يوحد القبائل ويأخى بين أعداء الأمس.. ويحرر العبيد ويعلن ألا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.. وكانت الدعوة الجديدة كفيلة أن تأسوا جراحات تغلب وبكر، وأن تشفي أوراحها من مرارات الانتقام والثأر.. لأن الله غفور رحيم.. والكل سيقف يوماً بين يدى الرحمن.. ليحاسب على ما فعله في دنياه من خير ومن شر وآثام..
وقرر هلال ليلة ميلاد المنذر أن يذهب إلى مكة ليقابل رسول الله وليحصل على بركته وينضم إلى صفوفه ويعاهده على نصرة الإسلام..
وما ان استقر رأيه على هذا حتى جمع ربعمائة فارس من رجاله، وانطلق إلى مكة، وكله أمل أن يحظى بلقاء رسول الله، وأن يحصل على بركته ورضاه..
وبالفعل طاف برجاله حول البيت، ثم قابل الرسول الذي فرح بانضمام هؤلاء المقاتلين الشجعان ذوي البأس الشديد إلى صفوف المسلمين، والإسلام يخوض معارك شتى لترسيخ أسس العالم الجديد.
وأمر الرسول هلالا أن ينزل هو وقبيلته في وادي العباس لينعم بالاستقرار وليكون بالقرب من مركز الأحداث، وتعهد هلال للرسول أن يبذل المال والرجال في سبيل نصرة الدين الجديد الذي يوحد العرب ويبشر بالسلام والخير والمساواة والعدل لكل الناس وارتاحت نفس هلال لأن ابنه المنذر كان بشير خير على أحفاد المهلهل أبي ليلى.. وسلالة كليب وجساس وعلامة فاصلة توقف إلى الأبد ما كن بينهما من غل وقتال.
فمضى يؤمن الوادي لأهل.. ومن حين لخر كان يخرج مع رجاله المقاتلين لنصرة النبيe في معارك شتى ضد فلول الكافرين.. ولمواجهة العشائر المعادية للإسلام وللسلام.. صلوا على طه خير الأنام..
كان الحادي ذت الصوت العذب يستحث جمال موكب السيدة "فاطمة الزهراء" ابنة رسول اللهe في طريق العودة من زيارة بعض أقاربهم بالقرب من المدينة.. وكان المساء رقيق النسمات والشمس تميل نحو الغرب فتصنع أشعتها الذهبية مع بضع سحابات متناثرة منظراً رائعاً يوحي بالسكينة والهدوء.. ومضت السيدة فاطمة تتأمل قدرة الخالق..
وهي تهمس: قادر على كل شيء.. سبحانه الخلاق العظيم.
وفجأة.. انقلب كل شيء وتحول.. واندفع إلى السهل المنبسط.. المئات من المقاتلين تطارد بعضهم بعضاً.
هاجت الإبل التي كانت هادئة.
وصرخ الحادي والمرافقون محاولين الابتعاد عن الساحة التي تحولت إلى ميدان حرب حاصرتهم فيها خيول تصهل.. ورجال فوقها يصرخون ويتقاتلون.
وأطلت السيدة فاطمة.. فراعها تشتت رهطها.. واندفاع الناقة التي تحمل هودجها فزعة نحو الجبل في هياج.. فارة من المعركة لتخوض في أحراش شائكة وصخور حادة.. وهي ترغي رعباً.
صرخت السيدة فاطمة تستنجد بحراسها.. ولكنهم كانوا قد تشتتوا وتفرقوا، فدعت الله أن يحميها ووجدت نفسها تدعو على من تسببوا في تشتت قافلتها بالشتات في الأرض، وعلى من مزقوا هدوء المساء وسلامه بمرارة التفرق والتمزق تحت صلصلة السيوف والرماح !!.
وبعد فترة هدأت الناقة حين هدأ القتال واستبعدت عن ساحة المعركة.. ثم وصل الحادي الهارب والحارس إليها، بعد أن استطاعوا جمع شتات القافلة الصغيرة.. ليعودوا بها إلى المدينة عن طريق أخر.
وحين وصلت حكت لأبيهاe ما جرى فلامها رسول الله وعاتبها، وأخبرها أن بني هلال لا يستحقون لعنتها بل إنهم يحتاجون لدعائها فقد كانوا يقاتلون بعض أعداء الإسلام الذين كانوا يتربصون بها وهي في طريقها إلى المدينة.
قال الراوي:
عندما أخبرت السيدة فاطمة والدها e بما جرى لها.. إفتر ثغره عن ابتسامة عريضة وربت عليها في حنان وهو يحمد الله على سلامتها.. ونجاتها من ذلك الكرب الشديد وعودتها..
لكنه أخبرها أن هؤلاء الذين لعنتهم كانوا بني هلال الشجعان يتصدون لجماعة من يهود خيبر.. تعودوا أن يقطعوا الطريق على قوافل المسلمين المتجهة إلى المدينة أو الخارجة منها..
وكانوا يتربصون بقافلتها ولكن العيون والأرصاد التي بثها هلال بن عامر أخبرته بما ينوي فعله اليهود الخيبريون.
فأرسل فرسانه ليفاجئوهم ويؤدبوهم على ما كانوا ينتوون.. ندمت فاطمة لكن النبي تبسم وقال إن الأمر استغرق وقتاً أطول مما قدروا، ولذلك لم ينتهوا من المعركة قبل وصولك آخر النهار.. حتى لا يسيئوا إليك ويضطر هجينك للفرار.
وهنا قالت فاطمة وهي آسفة:
- وهكذا يقدر الناس وتضحك الأقدار..
وحزنت لأنها دعت عليهم بالهزيمة والشتات وهم الذين كانوا يؤمنون طريق عودتها، هنا مسح الرسول دمعتها، وقال: ادعى لهم بالنصر لعل الله يستجيب لك فيخفف من أثر لعنتك الأولى عليهم.
ساعتها بكت فاطمة بكاءً شديداً لأنها لم تكن تقصد أن ترد جميل بني هلال النبيل بلعنتهم، وأخذت تصلي وتدعو الله أن يعفيهم ويكفيهم شر الهزائم وينصرهم على أعدائهم.
وعاد الرسول يبتسم وهو يطمئن ابنته الغالية مبشراً أن الله لابد سيستجيب لها ولدعوتها الطيبة.. ليخفف عن بني هلال وعشائرهم ما كتب عليهم في لوح أقدارهم ومصائرهم، وعليهم أن يجاهدوا ما بأنفسهم من ضعف وشرور. وإن ينتصروا للخير فيحظوا بالراحة والسرور. والشر بين والخير بين وكل مسطور في غيب علم الله وهم خلقوا للمجاهدة والمجالدة والمعاناة.
والله يسبب الأسباب لتكون في حياة هلال وسلالته عبرة لمن يريد أن يعتبرن من ذوي الألباب.
وما أمر به الله سيكون، بحق الكاف والنون.. والقلم وما يسطرون..

بداية سكة الغربة

بداية سكة الغربة
مضت الأيام بهلال بن عامر وعشيرته فى رحاب الدعوة الجديدة رخية هنية.. فما كانوا يخرجون لقتال إلا لنصرة الرسول والدعوة للدين الجديد الذى آخى بين العرب.. ووحد قبائلهم.. ووضع شريعة جديدة تقوم على التسامح والمساواة.. فكل الناس عبيد لله وحده.
ولا ملك إلا لرب العالمين وما الأرض والإبل إلا وديعة أعطاها الله. رهينة بحسن إرادتها ليعم خيرها على الجميع.. واستقر الأمر لهلال وعشيرته فى وادى العباس الذى سمح الرسول عليها السلام لهم بالاستقرار فيه..
وسمع كثير من العربان بكرمه يتمنى البشر أو كما يرغبون إذ للقدر تصاريف تقلب المصائر وتكشف السرائر..
فلله فى خلقه شئون. كما يقولون..
لقد توفى رسول الله … وعادت الجاهلية الاولى تطل برأسها..
واختلف الأنصار والمهاجرون واشتد الخلاف .. وكاد الأمر أن يفلت ليعود المشركون.. لولا حكمة صحاب رسول الله وتحكيمهم للعقل، فقضوا على الفتنة فى مهدها.. وجيش أبو بكر الجيوش لردع المرتدين وبينهم مسليمة الكذاب فى شرق الجزيرة.. وكان قد ادعى النبوة والتف حوله الكثيرون من الذين قضى الإسلام على تحكمهم .. وساوى بينهم وبين ما كانوا عبيدا دعى لتحريرهم من العبودية.. وصار عمل الإنسان هو نسبة.. ولا فرق بين عربى وأعجمى إلا بالتقوى .. كذلك خرج على الإسلام الذين ارتبطت مصالحهم بالدين القديم..
وأبلى هلال بن عامر وعشيرته بلاء حسنا فى نصرة الإسلام .. وظل يقاتل حتى أخمدت الفتنة.
ولكن الحرب مريرة وتترك فى القلوب جراحا لا تندمل.
لقد أطلت الثعابين القديمة برؤوسها ونفثت سمها فى قلوب مازالت خضراء لم تتخلص بعد من بذور الفتن القديمة .. ولا نزعت ثوب القبيلة البالى كله بعد. وعاد للمنتصرين إحساسا بالتميز، عادت تصرخ فى العروق التى لم تتطهر جيدا من رجس الشرك جراثيم القبيلة والجاهلية الأولى. ولله الأمر من قبل ومن بعد..
قال الراوى..
كان المنذر بين هلال بن عامر وولده الوحيد فارسا شجاعا حلو الشمائل ذاع صيته فى البادية والحضر.. وفاق أقرانه فى استخدام السلاح .. وفنون القتال كرا وفرا..
وكانت له جماعة من أصحابه يشاركونه مغامراته ونزواته ويزينون له حماقاته .. ولأنه الابن الوحيد لأبيه.. فقد كان له كل ما يبغيه .. ولذا صار بين الأولاد شديد العناد..
وذات يوم كان عائدا من رحلة صيد وقنص وطراد .. تمتع فيها وأصحابه بمطاردة الفرائس ين الجبال والوهاد.. إذا رأى فتاة ذات حسن وجمال.. تسير وسط رهط من صاحباتها ذوات الدلائل.
فأحس أن سهام عيونها قد رشقت فى ود وحنان قلبه..
فسأل صحبه .. فقالوا له أنه ابنة "قاهر الرجال" وأنها كبنات عشيرتها تميس بالحسن والدلال.
وإن كانت أجملهن على الإطلاق .. فعاد مهموما تعصر قبله الاشواق .. حتى دخل قصره وقد فقد حذره.. وطلب من والده أن يزوجها له على الفور..
لكن والده عندما عرف من هى استشاط غضبا .. ونفر فى وجهه عرق الجهالة القديم وقال غاضبا..
- أتريد وأنت ولدى الوحيد ، أن تتزوج إمرأة من سلالة العبيد.
ونسى هلال غمرة فى الجواب والسؤال .. ما يعنيه هذا الكلام.. ونسى أيضا ما علمه إياه فى الإسلام .. ولم يذكر سوى أنها من سلالة جساس بن مرةا لكلبى قاتل كليب التغلبى.
دهش الفتى الذى تربى على العقيدة الجديدة، من حديث والده عن الثارات التليدة..
ها هى المأساة القديمة تطل برأسها كالأفعى .. وعاد التناهى بالنسب والحسب بخنجر الجاهلية يطعن مبادئ المساواة فى مقتل .. وكأنه كان شبحا غارقا فى النوم إلى حين مؤجل..
صرخ متكدرا من قول أبيه:
- لا .. لا تقلها..
وانزع من النفس الأبه ياأبى وهم القبيلة..
ليس لى فى الحب حيلة..
أشتد غضب هلال بن عامر وأسودت الدنيا فى عينيه، فإبنه الوحيد لا يستمع إليه.. ويريد أن يتزوج فتاة من الأوباش .. ونسى أن الإسلام قد ساوى بين البيض والأحباش .. لكنها الجاهلية القديمة .. أفقدته الرؤية السليمة. وأسلمته للمشاعر القيمة .. فسب ابنه وصب عليه اللعنات.. وطرده شر طردة إلى الفلوات.. وكأنما لا تربطه به أعز وأنبل الصلات. وكاد فى غضبته أن ينسى إسلامه ويستعين بالعزى واللات .. كفاكم الله شر الغضب الجهول .. عندما يعمى القلوب ويلغى العقول..
غضب المنذر وخرج من وادى العباسى .. وهو لا يصدق ما سمعته أذناه.. ورأته عيناه .. فها هو أباه يأبى أو يزوجه حبيبته، لأنها من سلالة كلبية وهو من أرومة تغلبية.. ها هى الجاهلية تعود لتفرق بينه وبين أحبائه .. وهو لن يخضع لها.. وسيخرج عليهم جميعا لينتقم من المنافقين الذين يبطنون خلاف ما يهرون ويقولون ما لا يفعلون..
إجتمعت حول المنذر جماعة من اصدقاء صباه وشبابه، أولئك الذين شاركوه نعمة بنوته لهلال بن عامر وصاحبوه فى أيام أعز أبيه.. لكنهم كانوا يحبونه هو.ويجبون به لفروسيته، ويحفظون له أنه كان لهم صديقا ورفيقا اكثر منه قائدا. فتبعوه .. وغضبوا لغضبه.. وأصبحوا جماعته وعصابته..
قطعوا معه طريق القوافل .. وأغاروا على القبائل.. حتى ارتفع صراخ الإحتجاج عليه هنا وهناك.. خاصة بعد أن اشتهر والتحق به كل من له ثأر عند قبيلة.. أو من له مطلب حرمه منه شيخ كهلال .. أو من يرغب فىأن يجد قوت المرأة والعيال.. وسدت فى وجهه دروب الرزق الحلال.
ولم يجد المعتدى عليهم من رجال القبائل وأصحاب القوافل إلا أن يتفقوا على الذهاب لهلال بن عامر يستنجدون به ليوقف ابنه عند حده.. ويحميهم من عدوانه.
استقبل هلال واستمهلهم حتى يعرض الأمر على رجاله.. ووعدهم أن يرد عليهم حتى ولو عوضهم عن خسائرهم من أمواله..
أخذ هلال بن عامر يفكر وهو جالس وحده فى شرفه قصره، فيما وصلت إليه الأمور.. وأخيرا أملى رسالة على كاتبه إلى ابنه، قال له فيها:
"يا بنى لقد زدت على الأوجاع.. فلماذا تزيد من سود الأوضاع.. كانت سيرتنا بالخير على كل لسان.. فرسان شجعان ينصرون المظلوم ويقيمون العدل أينما يحلون.. لم يكن النهب والسلب من شيمنا نحن الذين نصرنا الرسول..
فارجع عما تفعل واعقل .. واعمل حساب يوم للحساب مهول لا يؤجل"
وبعد أن طوى الكتاب اعطاه لنجاب اسمه بلال وطلب منه أن يهود بالجواب فى الحال.. ولكن عبده بلال لما وصل إلى حيث المنذر، وجده مع جماعته يشربون ويصخبون فتقدم إليه وعرض الرسالة عليه، ولكن المنذر لم يمهله لحظة حتى ليقرأها، بل اختطف الرسالة ومزقها. وكان أن يقتله، لولا أن منعه عنه أصحابه.. على الأقل لكى يحمل إلى هلال ما يحويه جوابه..
وحينما عاد العبد إلى هلال بجواب ابنه.. ازداد غضبه، لأنه كان يتمنى أن يعود إليه ولده.. فلما وجده مازال على حاله.. حز فى قلبه مقاله..
وطلب شورى عشيرته .. فنصحوه ألا يخرج لقتال فلذة كبده .. وأن يترك المعتدى عليهم من رجال القبائل والقوافل يستعيدون ما أخذ منهم بالقوة .. فهم كثرة وأنبه وجماعته قلة.
وبالفعل اعتذر بعدم قدرته على مقاتلة فلذة كبده .. وكتم فى نفسه وهو كظيم .. لأنه ترك أعداء ابنه يفعلون به ما يستطيعون.
قال الراوى ….
اجتمع على قتال المنذر خمسة آلاف من رجال القبائل وعبيد أصحاب القوافل:
وحاصلوا المنذر فى الوادى الذى فيه يقيم. وفاجأوه بالغارة من كل ناحية كالصاعقة ودحرجوا على معسكره كتلا من النار الحارقة.. فكانت المفاجأة كاملة شاملة.. لم يستطيع المنذر ورجاله إلا أن يولوا الأدبار.. خوفا من الدمار.
بينما حرر المنتصرون الماسورين من أهلهم .. وجمعوا ما سرق من أموالهم. وعادوا سالمين غانمين وتشتت رجال المنذر وفروا هاربين ..مختلفين ورائهم الكثيرين ما بين أسرى وجرحى ومقتولين.
وأصر كبيرهم أن يرسل إلى هلال بعض القتلى والأسرى .. ليكونوا أمام بقية الخلق عبره….
وحكى بعضهم لهلال ما جرى وما آل إليه حال ابنه الوحيد .. فبكى هلال وأقر بذنبه وأرسل وزيره ليعود بإبنه الشريد..
ولكن الوزير وصل متأخرا .. إذ كان المنذر قد شد الرحال إلى الشام والعراق مهاجرا..
فأرسل وراءه من يتقصى أخباره .. ويعرف إلى أين كان مساره .. فعاد إلى هلال بما حصل عليه من أخبار.. فظل يبكى ابنه الوحيد الغريب ليل ونهار..
ندم هلال ندما شديدا .. لأنه كان إلى هذه الدرجة عنيدا.. خاصة وقد اعترف أنه جانبه الصواب وجر على نفسه وابنه الخراب، فحين خضع واستمع إلى نداء الجاهلية الأولى..
ورفض أن يزوجه من الفتاة الكلبية بحجة أنها من سلالة الأوباش.
وأخذ يصلى ويدعو الله أن يتوب عليه … وأن يجنب أولاده المصير الذى ساق إليه أبنه الوحيد، الذى هو بالتأكيد مثله عنيد..
فكتب بيده على نفسه وعلى أهله الغربة والتشريد.

هذبا تخطب عذبا

هذبا تخطب عذبا
لم تكن المرة الأولى التى تراه يتسلل من جوارها ليقضى ساعات الليل ساهرا قلقا يتأمل نجوم السماء.. ويرسل النظر عبر الصحراء مهموما..
لم تحاول أبدا أن تقطع عليه خلوته.. أو تسأله عن سر حزنه العميق.. لأنها كانت تعرف السبب..
لقد مضت خمس سنوات كاملة من تزوجته وسط فرحة الأهل فى احتفال يليق بـ هذبا ابنة الأمير مهذب حاكم بلاد الشيخ العامرة.
خمس سنوات كاملة ولم تنجب له ولدا..
كانت تراه يداعب ويلاعب أطفال القبيلة فتحرق الحسرة قلبها، لأنها لم تستطع أن تنجب للمنذر ابنا يليق بكل هذا الحب للأطفال الذى يملأ قلبه.. ويكاد يفيض دموعا من عينيه أمام كل طفل أو طفلة يراها.. كانت الحسرة تحرق قلبه .. فتسيل دموعها فى صمت وهى لا تعرف كيف تستعيد حبه الهارب أو الذى يكاد يفر، كطير تخبط بين جدران قفصه..
قال الراوى
منذ عاد وزير هلال بن عامر إليه دون أن يعثر على ولده المنذر وأخبره بهجرته من الشام إلى العراق، وهو فى غم وهم شديد. فقد أضاع ابنه الوحيد، وأحس بأنه لن يلقاه بعد الآن.
وأحس أن الله الواحد الديان .. يعاقبه على ما ارتكبه حياله من ذنب،وما جلبه عليه من الأحزان. عندما نسى أهم علمه أياه الإسلام.. أن لا فضل لإنسان على إنسان إلا بالتقوى والإيمان.. ورفض أن يزوجه ممن هواها القلب.. طرده ليهيم فى الدنيا ويعانى الغربة الكرب.. لأنها ليست فى مقامه.. ولا تصلح إلا أن تكون من عبيده وخدامه.. فهى من نسل حساس القاتل ومن عشيرة البكريين، وأين هؤلاء من أرومة التغلبيين .. سلالة المهلل العنيد.. وكليب الشهيد.
صرخ هلال فى الليل صرخة تزلزل الجبال..
وتوقظ من النوم الرجال.. فزعين لما أصاب سيدهم من حسرة.. وضعف لا يليق ببنى مرة.. لكن الحزن فى قلب هلال كان ثقيلا كصخور الجبال.. فقد سلك من ابنه سلوك الجاهلية.. عندما رفض أن يزوجه من الفتاة البكرية.. ناسيا ما استقر بقلبه منذ رأى رسول الله.. من سماحة الإسلام الذى لا يحط من كرامة الإنسان .. بسبب الأديان والأجناس أو الألوان.
هذا ما كانت عليه حال هلال بن عامر..
فماذا كان من أمر ابنه المنذر المطرود المهاجر..
صلى على رسول الله المنزه عن الكبائر الصغائر.
وصل المنذر ومن بقى معه من أصحابه إلى تخوم بغداد وسأل عن ملك كريم وأمير عظيم يلجأ إليه ويحتمى به. فدلوه على الأمير الحاكم بلاد الشيخ. وهو الأمير مهذب الذى كان يحكم على مائة وثمانين ألف بطل .. ويملك الارض الخصبة ما بين النهر والجبل..
وكانت للأمير مهذب عيوم وأرصاد .. تراقب حدود البلاد .. فوصله لجوء المنذر بن هلال وقدومه مع صحبه عليه.. فركب فى عشرين ألف من رجاله.. ليكون فى استقباله .. فقد كان يعرف مقامه وشجاعته.. وما فعلته الأيام وما بدلت من أحواله..
وما أن أقبل المنذر عليه حتى نزل عن حصانه وسلم عليه.. وأكرمه غاية الإكرام. وأظهر له الترحيب والإحترام وعاد به إلى بلاده ومستقر حكمه وهو يحس أن الله سيحقق به حلمه.. إذ لم يكن له ولد.. وكان هذا الأمر يقلقه ويسبب له لى شيبته بعض الهم والكمد.. وها هى الأقدار تسوق إليه بطلا من الأبطال .. وأى بطل؟!. فراح عنه الهم وملأ قلبه الأمل.. أن يتحقق حلمه قبل أن يوافيه الأجل!.
الآن يمكن أن يطمئن على أبنته التى فتن بجمالها الكثيرين.. ولكنها رفضتهم أجمعين. فزرعت بينهم فتنة لا ينطفئ لها لهيب. ووضعته فى موقف عجيب.. لذا كان يتمنى أن يزوجها من غريب.. حتى لا يقال أنه فضل رجلا منهم على بقية الرجال .. ومن فى الدنيا يحل له هذا الإشكال أفضل من المنذر بن هلال..
صلوا على طه أعظم الأبطال..
تذكرت هذبا كل ذلك وهى تراقب زوجها الحبيب الحزين .. مرت الأيام الحلوة أمامها بكل تفاصيلها وجمالها .. منذ رأت المنذر أول مرة وهى ما صاحباتها وسط المرج المزهر بالقرب من الجبل .. قبل أن يلتقى مع أبيها يوم وصوله.. وكيف رأت فى خصاله وفعاله ما أوقع بقلبها حبه..
وكانت قد شردت عن صاحباتها وابتعدت وفقدت طريق العودة .. وامتلأ قلبها رعبا حين لاح لها فجأة ذلك الضبع الكريه الذى كاد يفتك بها.. لولا ذلك الفارس الذى عاجله بضربة من سيفه أردته قتيلا على بعد خطوات منها.. وكيف حملها فاقدة الوعى إلى صاحباتها .. وهو لا يعرف من هى ولا أنها أفاقت بين ذراعيه القويتين وظلت تتظاهر بالإغماء لتشبع عينها بما يشع وجهة من رجولة وبهاء..
ابتسمت حين تذكرت كيف سلمها لصاحباتها فى خجل واختفى على عجل .. فلم تعرف اسمه وهو الذى ملأ عليها الدنيا وملك قلبها حسنة وخلقة ورسمة.
وحين فوجئت به يجلس مكرما معززا إلى جوار أبيها، ظنته لأول وهلة ممن جاءوا لطلب يدها .. ففرحت ورقص قلبها.. لولا أنها رأت والدها يضحك فى سعادة على غير العادة، عندما يكون فى الأمر خطبة لها، فانقبض قلبها.. فالأمر بالتأكيد على غير ما دارخ بخلدها.. لأن طالبى يدها وهم كثيرون لم يجلبوا لأبيها سوى الغم والحزن، لانهم يزيدون من عدد الذين يرفضون، وعليه وعليها يحقدون. كادت تصيح من مكانها خلف الستائر :"إنى موافقة يا أبى" ولكنها .. كانت تملك من الأدب ما يمنعها من التصريح بحبها.. فأسرت ما بقلبها. وأغلقت مفاتيح صدرها .. على سرها..
عادت الابتسامة تلوح على وجهها.. حين تذكرت كيف تقدم هو بعد تردد وكتمان لطلب يدها.. كان غير واثق وهو الغريب المهاجر أن يقبل والدها زواجها منه.. صحيح أنه قربه إليه حتى صار كوزيره وأحبه كأنه ابنه .. ولكن بعد أن وصلته أخبار رفضها لهذا العدد من الفرسان والرجال .. يئس وتأكد أن زواجها منها هو بعينه المحال.
وكادت تقهقه عندما تذكرت والدها وهو يقفز كالأرنب، وهى عادة تغلب عليه حين تغلب الفرحة .. ساعة حدثته زوجته .. عما أسرت به إليها ابنته.
- لم .. لم تحدثينى بهذا من قبل؟
- لم يكن من حقى أن أكشف لك سرها .. ونحن لا نعرف ما نعرفه الآن ..
- أو لست أبيها .. وكان من حقى أن أعرف ما يدور فى بيتى؟
- دعك من هذا! … لم أكن أجرؤ … ولم تكن هى لتسمح لى إلا بعد تأن تتأكد أنه يريدها كما تريده..
شجعتها المشاعر التى اجتاحتها أن تخترق الصمت الذى أحاط المنذر نفسه به وسط سكون الليل .. فاقتربت خفيفة كالطيف منه .. ووضعت كفها الرقيق على كتفه فى حنان الأم أكثر من شوق الزوجة.
فالتف ناحيتها وقد غمرت وجهة ابتسامة مغتصبة .. لم يفت عليها أنه بذل جهدا خارقا ليجعلها ابتسامة حقيقية.
- ماذا بك.. يا منذر؟..
- لا شىء لا حبيبة القلب..
- أنا هذبا يا منذر، أنا التى تقرأ صفحة وجهك بل وثنايا داخلك كالكتاب .. بح لى بما يهمك.. ويقلقك..
- هل تظنين أن قلب رجل يجد نفسه فجأة فى موقع الأمير مهذب ويحكم هذه الأرض باسمه يمكن أن يخلو قلبه من قلق .. بعض المشاكل تطارد الإنسان حتى إلى فراشه..
- منذر.. لا تخفى ألمك فأنا أعرف سره..
أختلجت عينا المنذر فزعا أن تكون عرفت بالفعل سر حزنه أو خمنته فاستدار إليها وأخذها بين أحضانه فى حنان وهمس فى أذنها..
- لا تشغلى بالك بأمور .. لا تخصك..
- لا .. إنها أشد الأمور التى تخصنى .. أنا أعرف مقدار ما يسببه لك من ألم أننى لا أنجب لك الطفل الذى تريده..
حاول أن يعترض ولكنها أسرعت ووضعت إصبعها المضىء على فمه طالبة ألا يقاطعها..
_ أتظن أننى بلهاء .. أو أننى على هذا القدر من الغباء الذى لا يجعلنى أشعر بما يدور فى داخلك.. عندما تداعب أطفال الآخرين.. أو ذلك الحنان والحنين الذى يفيض حولك حين تحمل طفلا أو تطعم طفلة أى طفلة.
صمت المنذر فلم يجد كلمات ليرد على هذه المرأة الذكية التى يحبها كما لم يحب أحدا فى الوجود .. والذى يكتم فى قلبه شوقه القاتل لطفل من صلبه خشية أن يجرح مشاعرها. لكنها واصلت كلامها وهى تتظاهر بالمرح..
- أنا بنفسى التى ستزوجك من امرأة أخرى .. تنجب لك الطفل الذى تريد، بل لقد اخترتها بالفعل من سلالة منجبه، حتى تحقق أملك ولا تخيبه..
لم تعطه الفرصة لكى يعترض .. فهى تعرف أن اقتراحها قد وافق رغبته وهواه.. فأرادت هى (بيدها لا بيد القدر) أن تختار بنفسها من تحقق له مناه .. رغم كل النار التى تتأجج فى داخلها .. واليأس والخوف الذى يعصر قلبها ويشعل نيران الخف من فقده بين ضلوعها.
قال الراوى
بعد أن زوج الامير مهذب ابنته هذبا من ضيفه وحبيب قلبه المنذر وارتاح من هم الفرسان المرفوضين، الذين شفوا من ألمهم وحزنهم الدفين، بعد أن صارت لرجل يحبونه أجمعين.
أقام لهذا الليالى الطوال الملاح التى قضاها الجميع فى سرور وإنشراح .. إنزاح عن قلبه الهم الوحيد الذى كان ينغص عليه حياته ويحرمه من فرحته أن يقفز كالأرنب فى مرح بسبب الهم والقلق الذى كان يعصر قلبه كلما لاحظ نظرات الغضب والغيرة التى يتراشق بها الفرسان العرسان المرفوضين.
الآن صارت هذبا زوجة للمنذر ولا سبيل إليها، فارتضى الجميع حكم القدر .. الذى دبره لمهذب كى يجعل الأمر عليهم جليلا .. والطمع فيها مستحيلا..
بعد ذلك أعلن أنه يجعل من صهره المنذر حاكما مكانه وأميرا يعلو بهم شأنه فهل من معترض .. أو طامع؟
كان الجميع قد أحبوا المنذر فبايعوه. حتى أولئك الذين كانت لديهم بعض المطامع لم يجدوا بدا من أن يؤيدوه..
وألبس المهذب الأمير المنذر لباس الإمارة وألبسه الخاتم وسلمه الإشارة وطلب منه أن يقسم ويعاهده أمام الجميع أن يحكم بالعدل والإنصاف .. وألا يبيت فى أرضه كما كان فى عهده جائع أو خواف..
وجلس المنذر على كرسى الإمارة وأظهر الكثير من المهارة والجسارة.. فأكرم العربان والرعيان وزارعى البساتين، وحكم بما يمليه عليه العقل والدين.. فانقاد له العباد وآمنت البلاد..
لكن حنينه للولد كان ينغص فرحته .. وينقص من راحته، حتى كانت تلك الليلة التى كاشفته فيها زوجته بأنها تعرف سر حزنه .. وشوقه لابنه .. وأنها عاهدت نفسها أن تزوجه بمن تهبه الولد بأمر الله.. لأنها لمتعد تحتمل أن تراه يتعذب، وهى ابنة المهذب الذى لم يكن يحب الحزن ولا القلق .. ويتمنى أن يظل طوال الوقت يقفز فرحا كالأرنب من مرح ونزق..
أدعو الله وصلوات على خير من خلق.
ذهبت هذبا متنكرة فى زى ملك من ملوك الشام.. قاصدة بلاد السرو، واستقبلها الملك الصالح ملك بلاد السرو بكل إجلال واحترام.. واقام الولائم التى تليق بما عرف عنه من كرم. ولما انتهى الطعام. ودار بينهما الحديث والسمر والكلام .. أعجب الملك الصالح بذلك الملك الجميل الشديد الذكاء والفصاحة..
ولذا لما وجد الملك المتنكر الفرصة فاتح الملك الصالح وطلب منه يد ابنته..
ورد عليه الملك الصالح أن الأمر يحتاج لمعرفة رأيها.. وأخذ موافقتها .. لكن هذبا المتنكرة .. أصرت على أن تحصل على موافقته أولا.. لأنها بعد ذلك سوف تحصل على موافقة عذبا، وهى متأكدة من موافقتها..
ازدادت دهشة الملك الصالح..
واضطر أن يقول أنه موافق .. ولا يجد مانعا..
فقالت هذبا وهى تنزع ثياب تنكرها وتكشف عن شخصيتها:
- الآن اطمأن قلبى .. لكنى سأقوم الآن لأقنع عذبا .. فنحن النسوة نفهم بعضنا جيدا..
لم ينطق المالك الصالح بكلمة، وازدادت دهشته فلم يستطع أن يعبر عما أحس به من هول .. خاصة وقد استطردت هذبا مبتسمة:
- لست أنا الذى يطلب يدها طبعا يا سيدى.. إنما أنا أريدها زوجة لزوجى.. فهل تعطينى الفرصة أيها الملك الصالح..
ظل الملك الصالح مندهشا ذاهلا. لا يستطيع النطق بكلمة .. فقد كان الأمر غريبا وعجيبا.
امرأة تسعى لتزويج زوجها..
- إن هذه غاية العجب .. ولم تسمع من قبل به العرب..
لكنها عندما شرحت له الأمر أكبره وأكبرها .. ودعى ابنته وأحضرها .. ولم تفهم عذبا تماما وكادت أن ترفض لولا أنها أحست بصدق نوايا هذبا.. وقوة إقناعها.. فكتمت الخوف الخفى فى قلبها .. فما من امرأة ترضى أن يشاركها أحد فى رجلها .. فما بالك والمنذر كان له بطلها وحبيب قلبها…
لكن الفتاة الرقيقة لم تستطع إلا أن تصدق أن هذبا تقول الحقيقة..
والحقيقة أن عذبا كانت قد سمعت بالمنذر وحكاياته، وأعجبتها بل وملكت قلبها مغامراته.. لذا أزاحت قلقها جانبا.. ووافقت على أن تصبح زوجة لزوج هذبا وأن تشاركها فيه المحبة.. بعد أن أقنعتها وفتنتها .. إذ جاءت بنفسها وطالبتها .. وفى موكب عظيم أصحبتها .. لتكون زوجة لزوجها. عسى أن تحقق له الحلم الموعود.. وتأتى له بالمولود..
وزفت عذبا للمنذر .. كما هو مكتوب ومقدر.
وعندما هم الملك الصالح بتوديع ابنته، بعد أن تركها أمانة بين يدى المنذر وزوجته، وجدت نفسها وقد غلبها قلق خفى .. وخوف لا تدرى مصدره .. تهمس لأبيها بصوت لم تخفى عليه رعشته:
أبى .. أرجوك أن تزورنى بين وقت وآخر.. فمهما كانت فروسية زوجى طيبة قلب زوجة زوجى .. فإنها ستكون لى ضرة!، وأنا أخشى الخفى فى قلبها، مهما أظهرت لى من المحبة والمسرة.

بين جابر وجبير

بين جابر وجبير
قال الراوى ..
أخيرا يا سادة يا كرام تحققت الاحلام .. والمنذر الذى كان يحلم بابن واحد رزقه الله بولدين..
فالله يفعل ما يشاء حين يشاء .. والمقدر والمكتوب على الجبين لابد أن تراه العين .. وما لابد أن يكون يكون … لأن لله فى خلقه شئون .. وكم للأحداث من شجون..
فهلال الذى طرد المنذر من ظلال رحمته .. لأنه أراد أن يتزوج امرأة من قبيلة ليست فى مكانه قبيلته وليست لها أصل مثل أرومته .. امرأة من البكريين رعاة الإبل والأغنام بينما هو سليل التغلبيين المحاربين ذوى المكانة والمقام .. لقنته الأيام درسا لأنه نسى ما أوصى به الإسلام وما أقره من مساواة بين خلق الله من الأنام … وحرمه الله من أعز أولاده، يشهد يوم ميلاد أحفاده..
بينما عوض الله المنذر عن أيام غربته وأوقع فى قلب هذبا محبته، ثم حرمها من الولد ليكتمل الدرس من حكمته.. التى تعجز عنها الأفهام .. ليأتى اليوم فنعرف مما حدث .. عبرة الأيام .. خاصة عندما لا يستوعب الأبناء أخطاء الأباء.
صلوا على من كان خير الأبناء وأكرم الآباء.
لقد اختارت هذبا لزوجها زوجة هى عذبا، بنت الملك الصالح لتنجب له ما يشتاق إليه من ولد .. وتزيل عن قلبه ما هو قلبه ما هو فيه من كمد، وأحضرتها بنفسها إلى البلد .. وعطفت عليها وتقربت إليها.. وعاملتها برقة لتشعرها بالأمان وأخفت ما بقلبها من أحزان .. وهيأت لها الفرصة، وكل أملها أن يتحقق أمل زوجها وحبيبها فى الخلفة التى حرمت منها، وغمرتها بالحب والألفة، على عكس ما تفعله النسوان.. وأبعدت كل منغص عنها.. وقد زاد هذا من محبة المنذر لها.. وزادت عنده مكانتها .. وكلما كانت محبتها فى قلبه تزيد .. كان حبه فى قلبها يتجدد من جديد.. فكان ما أرادته حكمة الرحمن.. وهى أن يفهم الإنسان أنه يريد وغيره يريد.. ولكن الله فى النهاية يفعل ما يريد..
وكانت المعجزة
فحملت هذبا التى كانت عاقرا محرومة من الإنجاب فى نفس الوقت الذى حملت فيه عذبا.. والله وحده يسبب الأسباب..
ولذا كانت الفرحة فرحتين..
وبل الإبن يا منذر .. وهبك ولدين.
فربك للمكسورين – كما يقولون – جابر.
تصور الأمانة وتعى الدرس.وتكون للغرباء فى بيتك .. جبير..
صلوا .. على من كان الكلمة واللسان للأخرس وعيونا للبصير .. نبى الله السميع القدير..
فى نفس الوقت الذى أنجبت فيها عذبا ابنها جبير .. وضعت هذبا ابنا يضاهيه فى الحسن أسماء والده جابر..
وأقيمت الأفراح والليالى الملاح ووزعوا الأموال وذبحت الذبائح وظلت الولائم للرائح والغادى، من أهل الحضر والبوادى.. حتى ظهر الهلال التالى لشهر جمادى وكانت محبة هذبا قد زادت فى قلب المنذر.. لأنها فعلت المستحيل كى تحقق رغبة فى ابن يرث إمارته .. وزوجته من جميلة غيرها على غير ما تفعل النساء.. واحتملت كل ما فجره هذا من آلام وأحزان حين تراه فى أحضان غيرها.. بإرادتها وتدبيرها..
وها هى كما شاءت الأقدار تنجب له هى الأخرى، وفى نفس الوقت، بعد أن طال حرمانها .. وصحيح أنها ندمت لتسرعها هى الأخرى فى ما فعلته ولامت نفسها كثيرا على قلة صبرها .ز ولكنها والحق يقال صانت عهدها.. وظلت تعامل (عذبا) بكل إعزاز وإحترام .. كاتمة ما بقلبها .. باعتبار أنها فعلت ذلك بنفسها.
أما المنذر .. فصار يلوم نفسه هو الآخر بشدة لأنه أطاعها، وتزوج بامرأة لا يحبها.والحقيقة أنه لم يشعر يوما بالحب لعذبا، مقارنة بما يشعر به من عواطف نحو هذبا، وانعكس هذا على موقفه من جبير ابن عذبا، بينما زادت محبته لجابر ابن هذبا.. وكأنه يكفر عن ذنبه حيالها، ويعوضها عما جرى لها.
أحضر المنذر لطفليه أفضل المربين .. ولما شبا على الطوق استقدم لها خير المعلمين .. وعندما صار شابين سلمهما لأشجع المدربين .. فشبا فارسين، لا يشق لهما غبار فى العلوم والأدب .. فصيحين فى حكاية الحكايات ورواية الأشعار.. رجلين متمرسين بفنون الحرب والقتال .. كانا نموذجين لما يجب أن يكون عليه أحفاد جدهما هلال..
وحدث أن الملك الصالح والد عذبا عندما وافته المنية وأحس باقتراب الأجل .. دعى إليه ابنه مفلح على عجل وأوصاه ألا يكف عن زيارة عذبا وصلة رحمها كلما أتاحت له الظروف ذلك حتى لا تحس الغربة عن أهلها .. ولا تهون مكانتها لدى زوجها.. ولذلك قرر مفلح أن يزور أخته فور وفاة والده .. فى موكب عظيم تتحدث عنه الركبان ويحفظ كرامتها بين العربان.
فخرج لزيارة المنذر فيما يزيد عن ألف فارس فى عدتهم وكامل عتادهم ومعهم خمسمائة ناقة محملة بالهدايا التى تزخر بها بلادهم.
وخرج المنذر لاستقبالهم أحسن استقبال، وإن لم يعجبه تماما هذا الاستعراض للكرم والقوة.. أما جابر فإنه كان أكثر من والده غيظا واستعرت فى قلبه غيرة لا حد لها مما فاض على جبير من عواطف خاله وهداياه.. وحرك هذا الغيظ فى قلبه ما أخفاه، والذى لم يكن يخفى على والده وكان مع أخيه يراه..
وبعد أن بقى مفلح عند صهره مدة من الزمان عاد إلى بلاده.. ولكن الزيارة فجرت ما كان يخفيه المنذر من تفرقه بين أولاده، فلم يعد يجد حرجا فى إعلان تفضيله لجابر على جبير، وانحيازه الصارخ لابن هذبا على ابن عذبا..
ولم يفاجئ هذا عذبا التى كانت تحسه منذ اللحظة الأولى.. كانت تحس فى عينى المنذر ندما خفيا على زواجه منها .. وما أقسى هذا الشعور على إمرأة محبة وغريبة عندما ترى وكأن حبها مفروض على زوجها وهى من وهبته الابن الذى طالما حلم به .. وازداد هذا الشعور عندما حملت هذبا التى زوجت زوجها بنفسها .. امرأة فى حسنها ونسبها، فإذا بها تنجب طفلا مثلها.. ولم يعد المنذر مضطرا لإخفاء مشاعره مراعاة لها، ولا مجبرا على التظاهر إرضاء لها.
كانت عذبا فى البداية تلومه.. ثم أصبحت ترجوه، ثم ذهبت لهذبا تشكوه.. وتسر إليها أن المنذر يزرع فى قلب جبير الكراهية لأبيه وأخيه .. ورجتها أن تحدثه فى الأمر وما فيه..
ومل المنذر من إلحاحها .. وشكواها تارة اليه وتاره لزوجته .. فامتنع عن زياردتها ولقياها.. حتى ثارت ذات يوم وانفجرت باكية أمام ابنها .. وهى تسأله عما فعلته لأبيه وعما رآه منها ليعاملها هذه المعاملة القاسية، ويعامله وهو الشريف الحر كأنه ابن الجارية..
ذهب جبير إلى أبيه غاضبا .. وقد فاض به ما كان فى قلبه من مشاعر، حيال ما يلاقيه من أخيه جابر.. الذى يصر على أن يقابل محبته بكراهية لا يداريها.ز ويرفض وده بقسوة لا يخفيها .. وسأل والده عن السر فى تفرقته فى المعاملة بين أمه وبين هذبا .. ولم يقدم أخاه عليه وهو ابن عذبا، حفيد الملك الصالح وابن أخت الأمير مفلح العظيم . فرد المنذر عليه وهو كظيم .. بأن عليه وعلى أمه أن يعيشا فى قصرهما مكرمين كبقية الآخرين وإن لم يعجبهما رعاية لهما وما يجدانه من حماية فى ظل مكانته فليعودا إلى حيث يجدون عزا أكبر .. وكانة أفضل .. هناك فى مملكة جدة وبلاد أبيها .. تحت رعاية خاله المتكبر المغرور أخيها..
ولما عرفت عذبا بما جرى .. ذهبت غليه غير مصدقة فأعاد عليه حديثه القاسى.. فكتمت دموعها ودفنت حزنها فى قلبها وخرجت مصرة على الرحيل .. ولم يهتم المنذر كثيرا ولم يشفق عليها ولا عنى بالاعتذار إليها ونسى أنه يفعل بالضبط ما فعله معه أبوه هلال.! عندما طرده من رعايته ولم يراع بنوته .. ها هو يرتكب نفس الخطأ مع ولده جبير دون أن ينتبه إلى القسوة التى تتم بها فعلته.
وهما لم يسيئا إليه … ولابد لهما فيما صارت الأمور عليه.
قال الراوى
عندما عرفت عذبا بحقيقة ما يشعر به زوجها نحوها.. دعت ابنها جيير إلى الرحيل والخروج إلى بلاد أهلها .. وجمع جبير رجاله وماله وخرج غير نادم على ما كان .. وخرج معه عدد من أصدقائه الفرسان..
وأرسل المنذر معهم وزيره .. ليصحبهم إلى بلاد الأمير مفلح .. وعندما اقتربوا من بلاد الأمير مرزوق الواقعة بين بلاد السر وبلاد الشيخ طلبت عذبا من الوزير أن يعود من حيث أتى .. فهى تخشى أن يفهم أخاها مفلح الأمر على غير حقيقته ويظن بها سوءا، خاصة وأنه لم ير ما يثير القلق عند زيارته الأخير لها وللمنذر .. ووافقها الوزير الذى لم يكن راضيا عن الأمر كله من البداية وعاد أدراجه.
وأمر جبير رجاله بالنزول فى طلل قيم على حدود مملكة مرزوق بعد أن أرسل رسولا إليه يستأذنه فى ذلك..
وكان الأمير مرزوق قد سمع عن جبير وشجاعته .. وكان يعرف مكانه عذبا لدى أبيها وأخيها.. فخرج بنفسه إليهم فى موكب كبير حاملا معه الهدايا والعطايا .. وحين عرف بالحكاية، أصر على دعوتهم للنزول فى أرضه .. وتحت رعايته وحمايته.. وأعطاهم من الأرض والعبيد والجوارى، ما يكفى للاستقرار والحياة الكريمة حسب العرف الجارى.
وتعمقت الصلة بينه وبين جبير الذى أظهر شجاعة كبيرة وقدم لمرزوق خدمات كثيرة. فأحبه وقربه إليه .. وسمح له أن يفعل كل ما يعود بالخير عليه .. فصار له اتباع وأعوان وجماعة تزيد على الخمسمائة من الفرسان الشجعان.
وحدث فى يوم من الأيام .. أن حل عليهم ثلاث ضيوف من أهل بلاد الشيخ ومن رجال المنذر فرأوا ما له من مكانة وجاه وما يتمته به قوة وسلطان .. فأبلغوا أخاه..
وغضب المنذر واعتبر ذلك تحديا له، واستدعى وزيره وسأله عن السبب فى أنه لم يوصل عذبا إلى أرض أخيها. فحكى له الحكاية وأن ذلك هو ما طلبته عذبا.. وقال له هذا الأمر لا أهمية له .. خاصة وأنك طلقتها وراحت لحال سبيلها..
ووجد جابر فى غضب فرصة أبيه كى يطلب منه الإذن للانقضاض على جبير قبل أن يستفحل أمره .. ويزيد شره.. فيعود لينتقم منهم لما فعلوه معهم ومع أمه.. وكان جابر قد صار جبارا.واستغل حب المنذر له فأصبح يأمر وينهى فى كثير من الأمور .. حتى دون علم والده .. حتى كادت الامارة أن تكون ملك يده..
كتب جابر كتابا إلى مرزوق يهدده .. ويأمره بطرد جبير وأمه .. وعن بلاده يبعده، وإلا حمل عليه وشتت أهله وخرب أرضه .. وانتقم منه شر انتقام لأنه يأوى عدوا له لابد من طرده.
كان جبير فى إحدى رحلات الصيد وحده.. عندما صادف العبد الذى يحمل الرسالة فأخذها منه وقرأها .. فتكدر .. لكنه أخفى حقيقة شخصيته عن العبد وكتب ردا إلى جابر أعطاه للعبد وأمره أن يوصله غليه.. وأمره أن يخبره أن سيده الأمير مرزوق قد أطاع الأمر على الفور وأنه طرد جبير وأمه إلى الصحراء..
لك يكن جبير ليرضى أن يتعرض الأمير مرزوق للأذى على يد جابر وأن تتعرض أرضه للخراب على يد المنذر.. وقرر الرحيل فى سلام. واستأذن الأمير مرزوق فى الرحيل إلى بلاد السرور حيث خاله .. فقد اشتاقت أمه لأخيها .. ولم يخبره شيئا عن تهديدات جابر ..ز حتى لا يرفض رحيله .. إذا كان يعرف أنه لا يخضع لتهديد، أو يتخلى عن مروءة..
ضحك الأمير جابر متشفيا ودخل على أبيه المنذر منتشيا بالانتصار على أخيه وأخبره أن جبير وأمه يهيمان الآن فى الصحراء .. حسب ما أراد وشاء.
ولكن المنذر تأثر من ذلك وزاد عليه المرض .. وتذكر ما حدث له عندما طرده أبوه هلال بن عامر، وما لاقاه من مصاعب ومتاعب .. وداهمه الإحساس بالغربة والشتات وطلب من جابر أن ينسى ما فات .. وأن يرسل لأخيه كى يعود إليهم .. ويكفى ما جره العناد عليهم..
لكن جابر أقسم أن يشرد جبير فى الأرض وكتب رسائل إلى كل الإمارات المجاورة .. يهددهم إن أووا جبير أو استضافوه بالانتقام منهم..بتخريب بلادهم وتشريد أولادهم .. وأرسل رسالة أشد لهجة إلى الأمير مفلح تعجب من الأمر .. فلم تكن لديه أية فكرة عما جرى. ولم تكن قد وصلته اية أخبار عن أخته وابنها منذ أن كان فى زيارتها عند المنذر .. وبينما هو فى دهشته .. وقد أثر فيه تهديد المنذر ونال من شجاعته .. إذ أتاه من يخبره بقدوم أخته عذبا وابنها جبير .. فخرج إليهم ومعه رسول المنذر ورسالته .. ولما إلتقاهم أحس جبير بما فى كلام خاله من فتور .. وحين قدم له رسالة أخيه .. إنكشفت الأمور.
قال مفلح فى صوت مهزوم:
- يا ابن اختى. ها أنت ترى أن أباك يهددنا بالقتل والخراب ونحن لا قبل لنا بالمنذر وجيشه.. فإن رأيت أنت فى نزولك عندما خير فأهلا وسهلا بك، على الرحب والسعة..
فرد عليه جبير بقلب مفعم بالحزن والألم:
- ألف إهانة لنا ولا إهانة لك يا خالى الغالى .. إن لنا رب لن يتخلى عنا .. وسوف أكتب لأبى ألومه على هذه الأعمال .. التى لا أدرى سببا لها.
وكتب جبير رسالة إلى أبيه وأخيه.. يلومهما على ما يفعلان.. ويبدى دهشته لكل هذا الحقد الذى يحملان، وهو لم يفعل سوى أن أطلب الإنصاف بين أمه وزوجة أبيه.. والعدل والقسط بينه وبين أخيه.. وطلب منه أن يكف عن هذا العدوان والتهديد للجيران.. وإلا فإنه سوف يعود إليهم دوما لينتقم منهم ويشتت شملهم.. ولولا أنه ما زال يحبهم .. لرجع إليهم على الفور لتذكيرهم بمغبة وسوء فعلتهم .. ثم أعطى الخطاب إلى رسول أبيه بعد أن ختمه متعمدا تذكيره برحلة شتاته حين طرده أبو ولامه لأنه يفعل ما فعلا هلال فيه.
وقبل أن تركب عذبا هودجها .. التفت إلى أخيها قائلة:
الله سيكون لنا خيرا منك .. وسينصرنا لأننا مظلومين وفيكم ومنكم مغدورين.
والتفت إلى أبنها تواسيه .. وتخفف عنه فعلة أبيه، وتدعوه أن يعتز بنفسه ولا يطاطئ رأسه إلى لخالقة وباريه .. وأردفت:
لعلها يا بنى لعنة بنى هلال .. فلا تحزن فمن يعانى لعنة الشتات لابد أن يكتب له الله بعد الغربة فرحة الإنتصار.

كريم الأصل لا يهرب

كريم الأصل لا يهرب
اشتد المرض على المنذر ولمز الفراش..
وملك جابر بن هذبا المر فجلس على كرسى الإمارة وحكم وتجبر وقهقة ضاحكا فى تشف عندما بلغته الأخبار أن مفلح خاف نم تهديداته ورفض أن يأوى جبير وأمه عذبا وطردهم إلى الصحراء..
أما المنذر بن هلال.. فقد بكى شديدا عندما وصله الخبر.. حتى أبكى الحاضرين.. حتى هذبا، فقد أحست أنها كانت السبب فى كل هذا الأمر.. فلو أنها صبرت قليلا لأنجبت للمنذر الابن الذى يتمناه.. دون أن تخطب له عذبا فتنجب للعذاب ولده جبير..
قال لها الشيخ يا ابتى:
-إن المقدر لابد أن يكون.. فلله فى خلقة شئون، ومن كان يدرى أنك لو لم تفعلى ذلك، لما كان لك نصيب فى جابر.. ولظل المنذر مهموما لعدم الإنجاب.
فقالت وقد زاد همها:
-ها هو مهموم مكسور الخاطر بسبب الإنجاب.. يا سيدى.. وأنا السبب..
هدأ من روعها وقال:
-لست من يكتب أقدار الناس يا بنيتى.. هذه مشيئة الإله.. وحي يريد الله فلا راد لإرادته.. وما صنعه جابر بأخيه.. حدث من المنذر بأمر أبيه.. فاتركى الأمر لله وهو القادر على تهوين الأمر عليه..
ولم يرعى جابر خاطر أبيه حين طلب منه أن يرسل لى جبير طالبا منه أن يعود ولكن جابر تمادى فى غيه وصاح..
-لقد أرسلت وراءه لا ليعود ولكن لأعرف أخبراه، وإلى أين يذهب وفى أى مكان يستقر، لأطارده حتى آخر الأرض ولآخر الزمان..
قال الراوى..
أما ما كان من أمر جبير.. فقد سار مع أمه ومن صحبهما من الفرسان فى البر على غير هدى لمدة سبعة أيام.. حتى كاد أن ينفد ما معهم من شراب وطعام.. ثم قال أحد رجاله.. أن فى بلاد نجد ملك عظيم الشأن.. يقال له ابن حنظل النعمان.. لا يرد عن حوضه إنسان.. وأن من ينزل بأرضه ويلوذ بحمايته، يعيش سعيدا تحت رايته.. فقال جبير..
-سيروا بنا إلى نجد.. لعلنا نجد عند أهلها من يصون العهد..
وكان بينهم وبين نجد مسيرة يومين.. فمالوا إلى واد به عين.. ليصيبوا شيئا من الراحة فى تلك الواحة.. وبعد أن اغتسلوا وأكلوا وشربوا. هل عليهم رهط من الفرسان كأنهم من معركة قد هربوا.. ولما سألوهم عن شأنهم، وما هو سر هرولتهم وفرارهم.. قال كبيرهم "رحال" أنهم من أعيان نجد. وقد هاجمهم عدو اسمه الجيلى بن سالم.. الذى هو على أرض سنبس أمير وحاكم.. فقامت بيننا وبينه حرب وقتال.. انتصر فيها علينا واستولى على ما لنا من أنعام ومال.. فهربت أنا والعيال، ومن بقى من الرجال.. ولا نعرف ما جرى بين الجليلى وبين ابن عمنا النعمان بن حنظل.. وها نح هنا ولا ندرى ماذا نفعل..
وها قال له جبير..
-كيف وأنت أمير وابن عم أمير.. تترك ابن عمك تحت وطأة الحصار.. وتهرب من الديار؟ لو كنت مكانك لبعت روحى مع ابن عمى. الذى كنت فى حمايته وكان همه من همى.. هيا.. وأنا أضع وجماعتى معكم.. وأضع يدى فى يدكم.. وسوف ترى ما يحل بالأعداء من الدمار.. أو تمحو بدمانا ودماكم عنكم العار..
فإجابه رحال:
-كم معك من الفرسان والرجال؟
قال جبير فى ثقة..
-معى ثلاثمائة فارس لا يشق لهم غبار..
فاستلقى رحال على قفاه من الضحك وقال:
-لقد كان معى مائة ألف من الفرسان ياخليلى، ولم يصمدوا أما قوة الجليلى.. قم يا رجل وامضى إلى حال سبيلك واطلب النجاة.. فقد يكون الخيلى فى أثرنا.. فيعدمنا ويعدمكم الحياة..
غضب جبير لهذا القول الجبان.. وقال له:
-اهرب بجلدك أنت يا عرة الفرسان.. أما أنا فسوف أرحل برجالى ولكن إلى النعمان.. وسترى كيف سيكون النصر حليفى وحليفة..
وتعجب رحال لقوله هذا وإن وقف يتأمله وهو يتبع قوله بالعمل. فيأمر فرسانه بالركوب على عجل.. ويخطب فيهم بما قرره فيملأ قلوبهم بالأمل.. ويقودهم فى حماس لنجدة أهل نجد.. وملكهم النعمان بن حنظل!
وهنا قال رحال لرجاله:
-ياقوم.. هذا الرجل معه حق فيما رمانا به من تقريع ولوم.. هيا بنا نسير وراءه لنرى ما سيحدث بينه وبين الجليى.. فإن كان النصر له.. دخلنا المعركة إلى جانبه وشاركناه النصر.. أما إذا هزم.. عدنا كما كنا، ويا دار ما دخلك شر..
فوافقوه على هذا الأمر.. وساروا خلف جبير ورجاله ولكن فى طريق غير الطريق.. حتى يتبين لهم العدو من الصديق..
أما جبير فقد حث الخطى مع رجاله إلى حيث كان النعمان محاصرا بجنود الجليلى من يمينه وشماله.. يبحث عن مخرج من ذلك الكرب.. ويدعو الله أن يخرجه من هذا الموقف الصعب.
وبينما كان الحصار على جنوده يشتد.. وبين لحظة وأخرى يتوقع أن تحل ساعة الجد. فإذا بالدائرة تدور.. والمأزوم المكسور يكاد يصبح هو الفائز المنصور.. ولم يعرف الملك النعمان بن حنظل.. السر فيما حصل.. فبدل يأسه إلى أمل.. ولم يستطع تفسير كيف أتته النجدة من السماء.. فارتبكت بسبب هجومها الصاعق جيوش الأعداء فأربكت قوات الميمنة وخلخلت صفوة الميسرة.. وجعلت أمامهم إلى الوراء.. ووراءهم إلى الأمام..
صلوا على سيد الأنام وسبحوا من له الثبات والدوام.. ومسبب أسباب الحرب ومدبر أمور السلام.
حيث أطل جبير وفرسانه علىالوادى الذى التقى فيه الجليلى مع النعمان.. وجدوا موقف ملك نجد فى غاية العصوبة.. إذا أحاطت الجيوش بالجيوش.. وأحكمت قوات المعتدين العصار حول من خرجوا ليحمو الديار.. وكالبرق الخاطف هبطوا من فوق الجبل منقضين كالسيل شهرين السيوف.. يصيحون بالمحاصرين أن اصمدوا.. وهبوا للقتال..
وانقلب الحال..
وفى الوقت الذى فوجئ فيه الجليلى بهذا الهجوم المفاجئ الذى لم يكن فى الحسبان.. بلع الملك النعمان ريقه الجاف وسارع يأمر رجاله بالتقدم.. فانقلب المحاصرون إلى محاصرين.. وغسلت دموع الأمل قلوب الذين كانوا خائفين..
وأخذ الملك الجليلى يبحث وسط المعركة عن قائد المهاجمين حتى وصل إليه وهجم عليه وهو يصبح به.
من أنت ومن أين أتيت أيها المقتول؟..
فعلا صوت جبير حتى صار أعلا من صليل السيوف ودق الطبول وقال له:
-أنت القتيل يا من تجبرت واعتديت..
صاح به الجليلى:
-قل لى من أنت ومن أين أتيت. أيها المهان..
قال جبير..
-لست مهانا ولا جبانا أيها الطاغية فأنا جبير.. ابن المنذر الهلالى.. الذى فى الحق لا يبالى.. فاحذر لنفسك يا جليلى وانظر إلى شأنك وارجع عن عدوانك..
وانقض عليه فتلقاه الجليلى بما يعادل قواه.. وظل البطلين كالجبلين يصطدمان ويفترقان.. وكل منهما لا يجد طريقا للآخر حتى حل الليل، وحان وقت الانفصال.. فافترفا على معد فى الصباح لاستئناف القتال..
وحين عاد الجليلى لقومه سألوه عن خصمه فقال لهم كيف كان.. وكيف أصبح النصر الآن من الصعوبة بمكان.. وأشار عليه صحبه أن يرسل إلى جبير هذا ويساومه ويرغبه.. ويغريه أن ينضم لصفوفه، وأن يعده أن يمكن له فى أرض النعمان.. وأن يزوجه من ابنته غصن البان حتى يتجنب الخسران..
واقتنع الجليلى بذلك.. وقد رأى أن جبيرا لا مصلحة له مع هذا أو ذاك.. أو هكذا اعتقد.. فدعى فتى من فتيانه وسلمه رسالة إلى جبير بما معناه:
"مادامت ليست لك مصلحة معهم.. فكن معنا فتنال منا الغنى والجاه.."
أما ما مكان من أمر جبير فقد نزل فى ضيافة الملك النعمان الذى اعتبره من الأهل والخلان.. واستقبله بكل حفاوة وإكرام.. ودعا أهله ليسلموا عليه ويزفون آيات الشكر إليه..
وحين رأى ابنة النعمان حسنا.. ملكت فؤاده.. ولما نظر فى عينيها أحس أنها من الدنيا مراده.. ولم يعد يرى فيمن حوله سواها.. وكما وقعت هى على أرض هواه سقط هو فى بئر هواها..
وحين وصل رسول الجليلى بخطابه إلى جبير اختلط عليه الأمر فلم يعرف زيد من عبيد.. وسلم الخطاب إلى غير المقصود به العنوان.. وأوصل الكتاب إلى الملك النعمان..
فلما قرأه خاف أن تغرى العطايا التى وعد بها الجليلى جبير بالانضمام إليها.. فقرر أن يقدم له من الهدايا ما هو أكثر وأن يقطع الطريق عليه.. وراح يستشير أهل بيته.. والمقربين من عشيرته..
فقالت له حسنا وكانت تقرض الشعر وتحسن الأدب:
-اذهب يا أبى وإليه واتخذه ولدا.. فلولاه لكنا الآن أسرى وجوارى.. ولولاه لكنا مشردين فى البيد أو فى بلاد الجليلى إماء وعبيد..
اطمأن النعمان لحكمة ما استقر رأيه عليه، رغم معارضة أبيه حنظل الذى قال لجبير:
-يا بنى.. لقد صرت كبير السن واهن العظم غير قادر على حكم البلاد.. ولقد عزمت وتوكلت على الله.. إن قتلت الجليلى وكفيتناه شره.. أن تكون لنجد حاكما فأنت لها.. ومن أهلها.. وأن أزوجك ابنتى حسنا.. والتى لولاك اليوم لصارت عند الجليلى جارية أسيرة.. فأنقذتنا وأنقدتنا وأنقذتها لتظل مكرمة وأميرة.. فهى لك وأنت لها..
فوجئ جبير بما يعرضه عليه النعمان، فه من مكانه إليه وقبل يديه.. وقال له:
-أنت كأبى يا سيدى.. وقد غمرتنى بفضلك، وجعلتنى من ضمن أهلك. فافعل ما بدا لك فأنا طوع أمرك.. وما جئت إلا لنصرتك على عدوك فلا تشغل بغير ذلك بالك..
لكن الملك النعمان لم يضع الوقت بل أراد أن تسير الأمور إلى ما عقد النية عليه.. فدعا رجاله وأهل دولته وعرض عليهم فكرته.. وأمرهم أن يلبسوا جبيرا بدلة الملك فألبسوه.. وأن يجلسوه على كرسى الإمارة فأجلسوه وبايعوه..
وقال له:
-الآن يا جبير أصبحت حاكم بلاد نجد فخلصها من الأعداء.. واكتشف عنها البلاء..
ثم أحضروا القاضى.. وعقد له على حسنا بنت النعمان، وبات الجميع فى طرب وانشراح حتى طلع الفجر ولاح الصباح..
أرسل جبير إلى الجليلى مكتوبا يهدده بالويل.. إن لم يقم بتسليم نفسه إليه أو ينسحب إلى بلاده بما معه من رجال وخيل.. فاشتد الغيظ بالجليلى وأرغى وأزيد.. وأمر بدق الطبول وبالهجوم على رجال نجد..
والتحم الجيشان وتلاقت السيوف.. واصطدمت الدروع بالدروع.. والتحمت الرماح بالرماح.. وأخذ جبير يبحث عن الجليلى وسط الجموع حتى عثر عليه.. وطارده حتى لحق به.. وطوقه حتى حصره.. وضغط عليه حتى عصره. وضربه بالسيف فأطاح برأسه.. وما أن رأت جيوش الجليلى ما حدث لقائدها.. حتى وهنت منها العزائم ولم يقم لها قائم.. فولوا هاربين مهزومين.. بينما لاحقتهم جيوش جبير والنعمان.. حتى طردوهم من بلادهم.. وعادوا بكل الغنائم والأسلاب وردوا ما سلبوهم من أموال وحرروا ما أسروهم وسبوهم من نساء ورجال.. عادوا جميعا ومعهم رجال الرحال.. الذى اندفع بعد أن تأكد من انتصارهم إلى القتال ليشاركهم شرف النصر كما قال..
قال الراوى..
سبحان مغير الأحوال..
ومقدر مصائر الرجال..
فقد وهب النعمان إلى جبير كل ما ملكت يداه.. فصار هو ملك نجد حاكما على مائة ألف قرية.. وشاع خبره فى البلاد وانضم إليها المئات من خير الأبطال والأجناد.. وتحدث عنه وعن كرمه الشعراء والأمراء.. فقد فاق النعمان فى كسوة العريان وإطعام الجوعان.. وإكرام الضيف.. وصارت بلاده مقصد كل الناس فى الشتاء وفى الصيف..
ألم أقل لكم سبحان مغير الأحوال ومبدل مصائر الرجال..
فها هو الشريد..
يستقر له الأمر من جديد..
لدرجة لا يستطيع معها أن يطلب المزيد..
ولكنك تريد وأنا أريد، والله يفعل ما يريد.
وإلا لظل القديم قائما لا يفسخ الطريق للجديد..

زمار الحى لا يطرب حكاية سالم الشاعر

زمار الحى لا يطرب
حكاية سالم الشاعر
قبيل الفجر..
خرج الشعراء الثلاثة.. فلاح بن راشد وأخوه سالم وصديقهم اللدود فراج ابن السوداء من خيمة المغنية هند البصرية.. وقد أفلسوا تماما ولكنهم كانوا فى غاية النشوة والمرح..
لقد صرفوا كل ما معهم وصاروا يا مولاى كما خلقتنى، ولكن ما الجديد فى ذلك وهم دائما كذلك.. أنهم قضوا ليلة لن تتكرر مع موسيقى هند الساحرة التى تنطق الجماد وتحرك الحجر.. وأكلوا من الطعام أشهاه، وشروبوا من الشراب أحلاه..
هكذا كانت حياتهم وستبقى هكذا إلى يوم الدين..
-آه.. لا تذكر الدين.. ياسالم.. فأنا مدين بألف لابن البكرية.. ولو شم رائحتنا ستجده أمامى الآن يجرنى للقاضى..
ضحك الثلاثة وهم يتساندون ويتضاربون ويطارد بعضهم بعضا وقد ملأوا الليل صخبا وضجيجا..
هش.. هش.. لقد اقتربنا من بيوت الأمير جابر.. ولو سمعنا نضحك لأمر بجلدنا.
-هش.. هيا.. بنا ندخل عليه لنمدحه..
-أتريد أن تثكك أمك.. يا كاره أمك..
كادت ضحكاتهم أن تفضحهم.. لولا عاد كل منهم ليسد فهم الآخر.. وهم يسرعون بالابتعاد إلى حيث يأمنون ألا يعترض طريقهم أحد قال سالم.
-اسمعوا لقد جائتنى فكرة لو نفذناها لامتلأت سراويلنا ذهبا وفضة..
ضحك فلاح:
-طوال عمرك وسراويلك تمتلئ..
ضربة سالم فوق رأسه.. فضحك فراج وحال بينهما. ولم يكمل فلاح بل طوحت به الضربة، فاحتضن نخلة قريبة سقط تحتها وهو يضحك..
-لم أكن أعنى ما أغضبك أيها القذر.. إن أفكارى أنظف من ذلك كثيرا.. ولكن نفاية ولا تفكر إلا فى النفايات..
-اسمعوا.. أنا أتكلم بكل جدية.. افهموا.. وعدونى أن تطيعونى..
وما الجديد فى الأمر.. طوال حياتنا ونحن نطيعك كعبيدك.. ألم نطعك وذهبنا لمدح ذلك الأمير القبيح الوجه ابن خزيمة.. فجلدنا..
كان تذكر هذه الواقعة بمثابة بركان من الصخب والهرج.. لا حدود له هز سكون ليل الصحراء.. بقهقهات كقهقهات الشياطين المرحة.. الضاحكة.. وهذا بالضبط ما جعل الحراس ينكمشون بل ويبتعدون عن مصدر هذه الضحكات المهولة المجهولة..
-هل كان من الضرورى أن تصفه بالأسد الغضنفر.. فى حضور زوجته..
-لقد ظنت أنك تعرض بها..
-لا .. وقلت له.. وجهك كالبدر فى الظلماء.
-كاذب.. من أصل وجهك..
-لا .. من أصل وجهه..
-ولكن هذه المرة.. عندى ما يعوضكم.. أقسم لكم أننا لن نفلس بعد اليوم.. صدقونى فأنا من فترة وأنا أتقصى حقائق القصة التى سأرويها لكم.. وقد وصلنا لطريقة تجعلنا أغنى شعراء البادية.. والحضر أيضا..
- أية قصة؟..
- قصة أميرنا جابر..
- مرة أخرى.. أسمع.. كفى ما لقيناه الليلة من إفلاس.. واتركنى أذهب لأنام..
-لا نكن عجولا.. فالأمر لا يخص جابر.. ولكنه يخص أخاه جبير..
-وأين هو أخاه.. يا أخى.. يا ليتنى فعلت معك ما فعله جابر بأخيه.. كنا الآن ننعم برضى العيش بعيدا عنك..
-لا.. كنت أنا الذى سيعيش ملكا.. لو كان حظى كحظ جبير..
-حظ؟.. لا.. الأمر فيه ما فيه.. اهدأ يا فراج ودعنا نسمع له هذه المرة ولتكن الأخيرة..
-كل مرة تقول أنها الأخيرة..
-هذه المرة.. أخيرة.. أى أخيرة.. فليس لدينا ما نفعله سوء هذا.. ما هى القصة؟
-كتبت قصيدة فى مدحه، ولكنى حكيت فيها كل ما عاناه من غربة وقسوة.. وكيف جاءه الفرج بعد الشدة.. ولكنى ضمنتها ما يوحى بأن قدره.. إنما هو طرف من قدر أجداده.. وقلت فيها أنه سيكون رمز انتصار وسعد أهله.. منذ جده هلال إلى الأبد.. وضمنتها ما تحمله فى شجاعة الرجال هو وأمه من تعب وتشريد حتى تم سعده ومجده..
-من جابر؟!.. أى مجد وأى سعد؟..
-ليس جابر يا غبى.. وإنما أعنى أخاه.. جبير..
-وأين نجده؟..
-أنا وجدته.. أنا لا ألعب.. أنتم تلهون وتعبثون وتفلسون.. وأنا الذى ينقذكم دائما..
تربصا به كعادتهما ليوسعانه ضربا.. إعلانا عن موافقتهما على خطته رغم أنهما لا يفهمان كيف ولا متى.. ولكنهما أسرعا خلفه لإعلان الموافقة بطريقتهما.. فأطلق هو كالعادة أيضا ساقية للريح.. فهو يعرف أن موافقتهما على اقتراحاته التى غالبا ما تنجح.. لا تكن إلا بعد أن يشبعا رغبتهما فى ضربة علقة ساخنة ترعب ثعالب الصحراء فى أوجارها..
قال الراوى..
منذ شهور وسالم يتقصى الأخبار.. ويسأل يتقصى الأخبار.. ويسأل الفرسان والتجار.. كان قد سمع برحيل جبير من بلاد السرو وانقطاع أخباره.. إذ هدد جابر كل الملوك والأمراء الذين بجواره.. وأنذر من يحميه أو يقويه بتخريب دياره..
ولم يكن المنذر فى صحة تجعله يفرض على جابر أن يخفف من غله أو أن يأمره بترك أخيه فى حماية أخواله وأهله.
وعرف سالم بما جرى مع جبير.. ونجدته لأمير نجد وانتصاره على الجليلى.. وما حدث من زواجه من بنت النعمان ابن حنظل التى كانت أجمل بناته.. وكيف انتشرت أخبار كرمه وبطولاته..
فاقنع صاحبيه.. وشدوا ثلاثتهم الرحال إليه.. وكان قد نظم عنه قصيدة عصماء.. يحكى فيها قصة جده الكبير هلال.. وما جرى له مع المنذر سيد الرجال.. وكيف أن لعنه بنت رسول الله على سلالته بالتشرد والشتات.. ودعوتها لهم بالنصر والثبات.. ومازالت تحكم تصرفاتهم.. وتلون بالفرحة وبالحزن حياتهم..
فلما دخلوا على جبير وأنشدوه أشعارهم عرفهم جبير، فأخذ يسألهم عن أهلهم وديارهم، وأصر على أن يستضيفهم لأربعين ليلة كاملة، شهدوا فيها صنون الكرم والإكرام.. ما لا ينسى على مر الأيام..
وفى النهاية سمح لهم بالذهاب بعد أن أعطاهم عطايا تأخذ بالآلباب، فخع عليهم ثلاث خلع.. غاية فى البدع.. وأعطاهم ثلاثمائة جمل. كل جمل محمل بما حمل.. وثلاثمائة رأس من الخيل الأصيل.. التى تتقاتل فى سبيلها القبائل. هذا غير الدنانير التى تقلي بمكانة الأمير جبير. وعاد الشعراء الثلاثة وهم لا يصدقون.. أن خطة سالم وقصيدته لن تدعهم بعد اليوم يفلسون..
ولما عادوا للديار انتشرت عن عودتهم الأخبار حتى وصلت إلى جابر فاغتاظ وثار.. وخاصة عندما رأى الناس يتحدثون عن كرم جبير، الذى رأى منه هؤلاء الشعراء الكثير.. وكان غضبه أكثر لأنه أحس أن جبير لم تبتلعه الصحراء.. وأنه هو الذى يتحدثون عنه.. وأنه رغم ما فعله معه نجا وفاز.. وصار على هذه الدرجة التى يلهج بالثناء عليها الشعراء..
فأمر بإحضارهم ليتحقق بنفسه من أخبارهم.. فقال لسالم:
-أرأيتم.. أخى جبير.
فأسمعوه أشعارهم.. طلبا لرضاه. وللتخفيف من غضبه.. وطمعا فى عطاياه.. ولكنهم عندما أعادوا على مسمعه.. ما رأوه من كرم الأمير جبير أمير نجد، وما له من هيلمان وسلطان.. صاح بهم:
-ليس عندى لكم سوى الجلد والقتل.. فكيف تقبلون الهدايا من الأعداء..
ولولا أن أبوه تحامل على نفسه وحضر المجلس لفعلها.. وجر على نفسه وعلى أبيه العار.. قال المنذر:
-لقد تماديت يا جابر.. منذ سنين وأنا صابر.. طردت أخاك وأغضبت أمك.. وتأتى الآن تريد أن تجر علينا عار العرب.. فتهين الشعراء وتفكر فى قتلهم.. والله.. الذى نفسى بيده لو كنت بصحتى لأطحت برأسك أنت.
فاعتذر للشعراء على الفور..
وهنا قال سالم:
-ياسيدى المنذر.. اسمح لى أن أقول لك أننى تأكدت أن جبير هذا هو جبير ابنك.. فلقد أنشدته قصيدة تحكى قصتك مع والدك.. وكنت أريد أن أرى تأثيرها عليه.. فإذا به عندما سمعها يبكى حتى سالت الدموع أنهارا من عينيه..
حاول جابر أن يضرب الشاعر سالم ليسكته.. لكن أبوه قفز من فراشة ومنعه، بل ولطمه لطمه أخرسته، وكأنما عادت إليه صحته وفتوته..
مما أخرس لسان جابر فلم ينطق بكلمة.. حتى عندما رأى المنذر يسير على قدميه.. ويجلس على كرسيه، ويأمر على الفور بشد الرجال لكى يكحل عينيه برؤية ولده الذى رأى على يد أخيه أهوال الغربة والتشرد.. مثلما ذاقها هو على يد والده هلال.. لكنه لن يسمح للأب فيه.. أن يقسموا كما قسا عليه فؤاد أبيه..
قال الراوى..
ثم أن المنذر ركب وركب معه مائتان من الأبطال ومائتان من الجمال محملة بالأحمال.. طالبا بلاد نجد ليرى ابنه جبير وليعتذر له ولأمة عذبا.. عما فعله بهما جابر ابن هذبا.. التى طلبت أن يأخذها معه لكى تعلم عذبا أنها برئية مما ارتكبه جابر من أفعال دنيئة..
وما أن اقتربوا من نجد حتى أرسل المنذر الشعراء الثلاثة ليخبروا الملك جبير بقدوم أبيه إليه.. ليعتذر له وليكفر عما لا قاه بسبب أفعال أخيه..
وأمر الملك جبير أن يخرج فى موكب عظيم لاستقبال الضيوف.. وحوله ألف من العساكر بالرماح وبالسيوف.. يحيطهم ضاربى المزامير وناقرى الدفوف.. وسار إليهم وقابلهم فى منتصف الطريق.. مقابلة الصديق للصديق.. التى هى أطول عمرا وأبقى على الدهر من لقاء الابن بأبيه أو الشقيق للشقيق..
وبعد أن سلموا على بعضهم وسط بكاء الفرحة ونحيب الشوق.. نزلوا عن الخيول.. وتعانقوا حتى جفت العبرات.. وعادت الأنفس راضيات غافرات. وبعد أن ارتاحوا من عناء الطريق، دقت الطبول ونفخت الزمور وشدوا الرحال إلى بلاد الملك جبير..
واعتذر المنذر لابنه وغفر الابن لأبيه.. وتعاهدوا على نسيان ما فات. وأن يصلح السلام بينهم ما هو أت.. فهل يا ترى تتحقق الأحلام.. وتسمح الأيام.. وهل إذا غفر المظلوم للظالم.. يكف الشرير عن فعله الغاشم..
صلوا على سيد "بنى هاشم". وادعوا الله أن يجمعنا فى سلام.. لنكمل الكلام والنظام.
فارس بنى زحلان
قال الراوى..
صلوا على الرسول خير الأنام.. الذى بذكرة يحلو الكلام.. ويفتح لنا باب القبول ويكتب لنا بالوصول، وقولوا معى يا سادة ياكرام.. يبحان من له الدوام.. من ضرب لنا الأمثال بالأقوال وبالأفعال، وجعل التاريخ وحكايات الأبطال عبرة لبنى الإنسان، وعلمنا أن نستعيد ما كان.. كى نستفيد من صراع الخير مع الشر، والقديم مع الجديد.. لنستعد بعقل سليم وعزم شديد لمستقبل الأيام، ونحقق الآمال والأحلام.. ونبنى للأطفال العالم السعيد..
لذلك يا سادة يا كرام سنحكى ونعيد حكايات فارس الفرسان، ومغامرات بطل الأبطال: بركات، سلامة الهلالى، أبو زيد!!
معركة لا تسيل فيها الدماء
كانت الأرض المنبسطة تبدو كساحة قتال عنيف لا يهدأ، وإن كان قتالا بلا ضحايات، لا تسيل فيه الدماء.. كان الشباب من أبناء قبيلة "الزحلان" يتدربون على فنون القتال، تحت إشراف معلمهم الفقية العجوز "ابن الخطيب" الذى كان يدور كالنحلة بينهم، ملقيا بتعليماته، منبها أحدهم لخطأ قاتل، أو معدلا وضح رمح فى يد آخر، أو معترضا على طريقة ثالث فى الاشتباك..
وكان صوته المشروخ المثير للضحك هو الصوت البشرى الوحيد الذى يرتفع وسط صليل السيوف وطقطقة الرماح، واحتكاك العضلات بالعضلات، أو ارتطام القبضات بالرءوس، أو اصطدام الأجساد بالصخور والأرض الصلبة.
فى السماء، كانت الطيور الجارحة تحوم فى صمت وقد خدعتها الأصوات والآهات، فنت أنها معركة بعدها وليمة من الضحايا.. فمضت تدور فى سماء الساحة فى تربص وجشع، دون أن تعلم أن تلك ساحة تدريب، لا تخلف أشلاء ولا تسيل فيها الدماء.
مضت الساعات وأبنا قبيلة الزحلان لا يتعبون، إذ كانوا يعرفون أن مكانة قبيلتهم وسط القبائل، فى تلك الصحراء القاسية، مرهون باتقانهم فنون القتال، وكان لديهم إحساس غير قليل بالعار لأن ملكهم إضطر منذ سنوات، أن يقبل مرغما دفع نسبة فادحة من أموالهم وأنعامهم، إلى عدوهم اللدود (أبو الجود) بعد أن هزمهم وأجبرهم على التزام حدود وادى الدقائق ووادى النسور، تاركين الأرض الخصبة مكتفين بالأراضى البور.
كان أبناء الزحلان يدركون قيمة مال يمتلكه ذلك العجوز الماكر، والذى يتولى تدريبهم، ويعرفون أن حريتهم مرهونة بأن يستوعبوا ما لديه من علوم وخبرة.. فى فنون القتال.. لذلك كانوا يطيعونه ويحبونه، وإن لم يخل الأمر تماما من محاولتهم السخرية من طريقته فى نطق الحروف، خاصة عندما يغضب، فكانوا يقومون بتقليده فى أسمارهم خفية عنه طبعا.. لأن أقواهم ما كان يصمد أمامه لحظة، رغم كبر سنة وضآلة حجمه إن أراد يعاقبه، أو يلقنه الأدب.
قال الراوى..
وحده "بركات".. كان يستطيع ذلك..
ترى هل كان ذلك لأن بركات الذكى الماهر كان أحف حركة منه، ويستطيع تفادى حركاته الماكرة المفاجئة، ويتوقعها قبل أن توقع به، بطريقة يبدو معها التلميذ، أكثر من أستاذ مهارة.. أو ند له حين يتصدى له بجدارة..
أم لأن ابن الخطيب كان يتسامح معه، لأنه أحب أبناء الملك الزحلان إلى أبيهم.. أم لأنه يحبه بالفعل ويجد فيه تلميذه النجيب، لذكائه الشديد ورأيه السديد، وقدرته على استخدام عقله، بنفس القدرة على استخدام عضلاته وسيفه الحديد..
إكتسب بركات هذه المكانة فى قلب معلمه منذ أحضره إليه الملك الزحلان ليتولى تدريبه وتعليمه منذ أكثر من خمس سنوات وكان صبيا ما يزال.. يومها تعجب الفقيه قليلا لأنه لم يسمع باسمه من قبل كأحد أبناء الملك. لكنه حين حاول أن يسأل عن ذلك، نهره الملك بشدة قائلا:
-أن هذا الأمر سر شخصى للملك وحده..
فابتلع المعلم لسانه، وطوى الشك فى قلبه، وتعامل مع بركات على أنه أحب أبناء الملك إليه دون أسئلة..
كان للملك الزحلان ولدان آخران، هما منعم ونعيم يتعلمان فنون الحرب، وبتدربان على القتال، مع أخيهما بركات.. وذات يوم، أراد الشيخ أن يعاقبهما بالجلد لخطأ جسيم ارتكباه.. لكن بركات أشفق عليهما.. وتحمل الضرب بالسوط عنهما، دون آهة ألم واحدة.. مازاد إعجاب معلمه به، وزاده قربا منه، حتى صار يعهد عليه بمتابعة تدريب أقرانه، حيث يغيب لشأن من شئونه.
وزاد الأمر بينهما توثقا، بذلك الاتفاق الطريف الذى عقده بركات معه، يوم ساومه فى مرح:
-دينار ذهبى كل يوم.. فى مقابل أن تعلمنى لسان الفرس والترك والأكراد.. ولهجة البربر ولغة الطليان..
-دينار ذهبى؟
-ذهبى!!
-كل يوم؟!
-كل صباح.. وأيضا تلقننى أسرا الصباغة والصناعة وعلوم الكيمياء.
دهش اين الخطيب وقال:
وكيف تستطيع أن تستوعب كل هذا؟ وأنت تتدرب على فنون القتال والحرب؟
ضحك بركات وقال:
-هذا شأنى يا صاح، ودينار ذهبى لك كل صباح..
وقبل الشيخ الاتفاق، فى البداية على سبيل الفكاهة، كان يتصور أن بركاتا سوف ينسى بعد فترة تلك العلوم الصعبة، وسيمل منها، ويشغل كغيره من الشباب فى اللهو واللعب، والطعام والشراب، بدلا من إرهاق عيونه بالورق والكتاب..
ولكن بركات لم يغفل، وظل على مثابرته فى استيعاب فنون الضرب والحرب والفروسية، بقدر اندماجه فى دراسة الكيمياء والصباغة واللغات الأجنبية..
وكل يوم كان الرجل يضع الدينار الذهبى فى كيس خاص يزداد بمرور الأيام إمتلاء فى الوقت إلى يزداد معه حبه لبركات، الذى كان يزداد كل يوم شجاعة وذكاء..
أخر الدنانير
-بركات… بركات.. أدركنا يابركات..
رددت الجبال المحبطة بالوادى صرخة، الرجل ، الذى جاء منطلقا فوق حصانه، مخترقا ساحة التدريب.. توقف اللعب فجأة حتى أن بركات نسى أن ينزل الرجل الذى كان يصارعه، وظل يرفعه فوق رأسه لفترة قبل أن يلقى به وهو يحدق فى القادم الضارخ… وأقترب منه الشيخ ابن الخطيب مستطلعا الأمر، حتى وصل الرجل فنزل من فوق حصانه.. واندفع نجو بركات..
-أسرع يا بركات.. لقد فاض الكيل بأبيك الملك.
-ماذا حدث؟
-تمادى أبوالجود يا بركات، وتعدى حدود الأدب.
هل هاجم مضاربنا..؟!
-يا ليته فعل.. ولكن الأدهى من ذلك أنه تعمد إهانة ملكنا والإساءة إليه!
بكى الرجل، وهو يقول ذلك فأخذ بركات يربت على ظهره مهدئا..
-اهدأ.. واحك ما حدثز. دون زيادة..!
-لقد أرسل أبو الجود عبدا حقيرا من رعاة الغنم برسالة لأبيك، ينذره بدفع ما قرره علينا من أموال فى الحال.. وإلا.. دمر مضاربنا وأحرقها.
ابتسم بركات ليخفى غيظة وإنفعاله.
-ولكن موعد الدفع لم يحن بعد، فماذا وراء هذه العجلة..؟!
-أن لهجة الخطاب المهينة أصابت والدك بأزمة، حتى خشينا عليه.. وأظن أن أبا الجود يقصد هذا تماما.. لذا تعمد تجاوز حدود الأدب..
لم يجب بركات ولم يعلق، وإنما أسرع وقفز ممتطيا حصانة دون سرج، وأرخى لجامه فإنطلق به. أشار ابن الخطيب إشارة أنهى بها التدريب، واندفع الرجال على أثرها يمتطون جيادهم، وينطلقون فى أثر بركات، مثيرين عاصفة من الغبار، هيجت الطيور الجوارح مرة أخرى، فمضت تحوم صارخة فى سماء الوادى..
بينما عاد ابن الخطيب نحو كهفة المنحوت بين الصخور.. مد يده، تناول الكيس الذى يحتفظ فيه بدنانير بركات الذهبية.. فتحه فى هدوء.. وأسقط دينار اليوم مع أشقائه وتمت وهو يغلق الكيس ويعيده لمكانه..
-أنا متأكد أنك ستكون آخر دينار يدفعه لى بركات.. فقد نضج الآن، وصا مؤهلا ليتصرف تصرف الفرسان.. وصار يمتلك من الشجاعة والقوة ما يكفى، لكى يدله قلبه الكبير وعلقه الراجح.. على الفعل الصحيح لفارس نبيل..!
عفوك يا ملك زحلان
قال الراوى..
وصل بركات إلى مضارب الزحلان فقفز من على حصانة وانطلق إلى داخل خيمة الملك مزيحا من يقابله من الحراس وهو يزمجر غاضبا..
وما أن رأى المنظر الذى أمامه حتى انفجر غضبه فى آهة زلزلت أركان المكان.. كان الملك زحلان جالسا ينتفض من الغم والكمد وحوله رجاله المقربين عاجزين لا يجزؤن على الكلام بينما يقف أمامهم وسط الخيمة عبد يرتدى ثيابا رثه معجبا بنفسه كطاووس أنساه غروروه ما يجب أن يكون عليه من أدب فى حضرة الملك زحلان..
أمسك بركات بخناقة حتى كادت تختنق أنفاسه.. ورفعه بيد واحدة.. وصاح فى وجهة:
-هل أمرك سيدك اللعين أن تتطاول فى حضره أسيادك أيها الوغد اللعين وأن تتجاوز حدود الأدب؟
ثم ألقى به بعيدا فكومه فى آخر الخيمة كبعض النفاية.. واندفع فتناول الخطاب من يد والده المرتعشة.. فلما قرأه ازداد غضبه وبرقت عيناه تطلقان شرر الغضب، وأسرع مكشرا عن أسنانه نحو العبد حختى ظن الواقفون أنه سوف ينهش لحمه.. ولكنه رفعه من قفاه وأخرج سيفه القصير فانطلقت آهة فزع من فم العبد المسكين.. وقام بركات بحلق فروة رأسه. ثم مزق الرسالة بنفس السيف.. وخلط الشعر بباقى الرسالة وحشاها تحت صديريته وهو يزمجر..
لولا أننى أحتاج لنذل مثلك كى يوصل رسالتى لأبى الجود.. لمزقتك إربا إربا… هيا.. وقل لسيدك الجبان.. هذا هو رد الملك الزحلان.. وقل له أن نفس السيف فى انتظاره لا ليقطع شعره فقط.. بل لجز لسانه ورقبته.. قل له يا أبا الجود لقد ارتكبت خطأ ستدفع ثمنه غاليا..
ثم حمله بقبضة يده مرة أخرى حتى أجلسه مقلوبا على ظهر حصانه.. ووكز الحصان وكزة جعلته ينطلق حرونا بالعبد المقلبو وسط ضحكات فرسان بنى الزحلان الذى كانوا قد لحقوا به لشهدوا المنظر الأخير ويهتفوا إعجابا به..
قام الملك زحلان وقد عادت الروح تدب فى أوصاله.. واحتضن (بركات) فى حب وقال له:
-يا بركات ياولدى.. لقد أعدت الدماء إلى عروقى.. الآن أطمئن لقدرة بنى الزحلان على الوقوف أمام جبروت أبى الجود.. ورد مظالمه التى طال احتمالنا لها.
وابتدأ بركات فى تجهيز الجيش.. والاستعداد للخروج لملاقاة أبى الجواد الذى لابد أنه سيستشيط غضبا عندما يصل إليه العبد المقلوب فوق الفرس محلوق الرأس ليسلمه الرسالة الممزقة..
مقتل الوزير عجير
غضب أبو الجود غضبا شديدا وأمر بدق طبول الحرب للانتقام من الزحلان وتأديب ملكها.. لكنت الوزير عجير وزير أبى الجود سأل العبد راشد عمن فعل به هذا.. ومن الذى حمله تلك الرسالة المهينة.. فقال العبد راشد:
-لم يكن الملك زحلان يا مولاى ولكن عبد أسود من عبيده اسمه بركات.
فازداد غضب أبى الجود وهب قائما ليقود الجيش ولكن الوزير أصر على الخروج بدلا منه.. لإحضار ذلك العبد الأثيم لتأديبه.. إذ لا يليق به يخرج ليطارد عبد كبركات.. ووافق أبو الجود وسمح لوزيره بالخروج فى عشرة آلاف مقاتل لأسر ذلك العبد وإحضاره حيا، ليشفى غليله..
قال الراوى..
التقى الجيشان فى أحد الوديان، واندفع كل منهما نحو الآخر اندفاع العاصفة.. واشتبك الرجال بالرجال.. والتحم الفرسان بالفرسان.. ونادى الوزير على بركات أن يبرز إليه.. فوجده يبحث عنه.. واصطدم الرجلان كالجبلين.. كان الوزير مقاتلا قديرا ومبارزا خطيرا.. فانقض على بركات فى شجاعة، وجذبه جذبة كادت تخلعه من فوق فرسه، لولا مهارة بركات وقدرته على الصمود.. فارتمى فى مرونة إلى جانب سرجه وتفادى حربة الوزير ثم استقام على ظهر حصانه وانزلق، وهو يسدد حربته إلى صد الوزير مباشرة فاخترقت جسده وهو يصيح صيحة شلت حركة الخيل والفرسان.. فوقفوا يساهدون جسد الوزير وهو ينهار ومرتطما بالصخور والأحجار.. فى منظر رهيب، أثار فزع رجاله فولوا الأدبار.. بينما تصاعدت صيحات رجلال الزحلان، فرحين مهلين بالانتصار..
وحين وصل الخبر إلى أبى الجود ركبه الهم والغم.. وخاصة عندما عرف أن العبد بركات الذى مزق رسالته، هو الذى قتل وزيره.. فصاح صيحة الحرب
وقال:
-لم يعد لك منى يا بركات مفر.. ولن يكون للزحلان بعد اليوم أرض ولا مستقر..
رب إبن لك ليس من صلبك
قال الراوى..
طلب بركات من ملك زحلان أن يبقى فى المضارب وسيكفيه هو عناء القتال ولكن الملك رفض وجمع أنباؤه منعم ونعيم، وأشقاء زوجته جابر وجبير وأمرهم باللحاق ببركات، وهو يقول لنفسه:
عشت معى يا بركات كل هذه السنين كابن لى، بل أصبحت أعز أبنائى إلى.. وأثبت لى صحة ذلك المثل الذى يقول: "رب ابن لك ليس من صلبك.."؟
ولكن، لا يجب أن تذهب للحرب دفاعا عن الأرض بدلا من أصحابها.. ليس من العدل أن تضحى أنت، بينما أجلس أنا وأبنائى فى عقر ديارنا ننتظر.. لا سنسير معك.. فمصير مشترك..
وقاد بركات الجيش حتى التقى بجيش أبى الجود.. إلى الشمال من وادى النسور وهناك تقدم وصاح بإبى الجود:
كفاك ما ارتكبت من حماقات وإهانات.. فلنحقن دماء الرجال والجنود.. ما دمت قد جئت لتأديبى، فاخرج إلى.. تقدم.. وليحكم بيننا السيف..
برز أبو الجود وصاح به:
-لن ألوث حربتى بدماء عبد نجس مثلك.. عد إلى حظائر الغنم يا كلب العرب، وأرسل سيدك ليقاتل بنفسه، إن لم يكن قد قتله الخوف.. لن أقاتك عبدا مثلك…
ضحك بركات وصاح به:
-أننى عبد بقدر ما أنت عبد لغرورك.. لست عبدا يا ملك.. أنما أنا (بركات) إبن الملك زحلان، وكفاك تهربا من الحقيقة، التى تقول أنك تكاد تنهار من الخوف..
غضب أبو الجود لقوله واندفع نحوه صائحا، شاهرا سيفه، وتطاير الشرر عندما التقى السيفان، فارتفع لهما صليل رهيب، أفزع الخيل والعقبان.. وظل الفارسان يتبادلان الضرب والطعان، حتى حل الظلام ففرق بينهما..
وما أن أشرقت شمس الصباح، حتى عاد إلى ساحة المركة، وقد تجدد نشاطهما وظل يلتحمان ويفترقان، حتى بلغت الشمس كبد السماء واشتدت الحرارة ولمعت السيوف، واستبدل الفارسان أسلحتهما أكثر من مرة، واستعملا السيوف والحراب والخناجر..
واشتبكا معا يدا بيد وذراعا بذراع أكثر من مرة.. ثم عادا إلى الخيل مرة بعد مرة.. وتعالت صيحاتهما مختلطة بصهيل الخيل وصيحات الطير وزعقات الرجال وشهقاتهم فزعا وفرحا أو غضبا، وفجأة، وفى اشبتاك عنيف أثار سحابه من الغبار، انطلقت صيحة ألم عميقة مختلطة بصرخة غضب أعلى، مما حير الجميع، وانتظروا انكشاف الغبار ليعرفوا ما جرى.. ولما انكشف الغبار، كان بركات فوق فرسه التى رفعت قوائمها تصهل صهلة النصر، بينما كان (أبو الجود) على الأرض مضرجا فى دمائه..
سكن الوادى للحظات ثم انطلقت صيحات النصر من معسكر الزحلان.. وهنا صاح بركات مخاطبا رجال أبى الجود:
-أيها الرجال الشجعان.. لم نكن نريد هذه الحرب.. لكن أبو الجود أعماه الطمع، فلم يعد يعرف قدر ارجال، ولا قيمة الأبطال.. أعماه المال، فأرسل يهين الملك الزحلان.. ولكن نال جزاءه الآن.. فهل لكم أن تستمعوا لصوت العقل.. وأن نكف عن القتل..
وشقت كلمات بركات صفوف جيش أبى الجود.. وثار بينهم جدل شديد. انضم على أثره عدد كبير إلى صفوف جيش بركت، وهم يلقون بأسلحتهم، بينما اندفع آخرون إلى القتال، فطارودوهم منعم ونعيم إبنا الزحلان، حتى اضطروهم إلى الفرار…
قال الراوى..
أمر بركات رجاله بدفن الموتى وعلاج الجرحى.. وتقدم الملك الزحلان من بركات واحتضنه مهئا بانتصاره.. ونادى فى رجاله قائلا:
-يا أبنائى.. لقد عوضنى الله فى شيخوختى بهذا الإبن البطل.. لذلك أطلب منكم.. الالتزام بطاعته، لأن سيكون أميركم بعدى.. واندفع نعيم ومنعم يعانقان أخاهما.. بينما ظل جابر وجبير شقيقى زوجة الزحلان، مترددين، والتفت جابر هامسا لجبير:
-هل صدق الزحلان نفسه واعتبر بركات إبنا من صلبه ليوليه إمارتنا. وأنا بنفسى استقبلته طفلا مع أمه عندما لجأت به إلينا وأوصلتهما إليه..
لكن جابر سارع يقول له:
-انسى هذا الأمر الآن ولا تفسد انتصارنا.. أنه هو الذى قتل أبا الجود.. وخلصنا من شره.
ابتلع جبير رفضه، واندفع مع الجميع يعانق بركات ويهنئه، ويقسم على طاعته كما أمر الملك الزحلان.
قال الراوى..
ولم يكن هناك ياسادة يا كرام.. أسعد ولا أهنأ بالا من أم البطل الهامام بركات الست خضرة الشريفة التى كانت قد وصلتها الأخبار.. فرقص قلبها فرحا بانتصاره، وراحت تراقب مظاهر الفرح بالانتصار وإلى جوارها وقف الفقيه ابن الخطيب، بعد أن سلم لها كيس الدنانير الذهبية..
وهو يقول ضاحكا:
لم أكن أستطيع أن أرفض له طلبا يا سيدتى "خضرة"، كان مصرا على أن يكافئنى، وأن يدفع أجرى.. وطاوعته وم أفش سره لأحد وظلت أضع الدينار فوق الدينار، ليكون هديتى له يوم آراه وقد اكتمل له العلم مع الشجاعة.. فاعطها له يا سيدتى هو سيقبلها منك عنى.. إنها نبوئتى وبشراى له المزيد من الزيادة والنصر حتى يعرف أهله وقدره.. وحين تطبق شهرته الأفاق فليذكر الجميع إننى كنت معلم بركات أبو زيد، وهبته علمى وهما لا يقدران بثمن.
شيحا تنقذ بركات
عين قطف الزهور
كانت خضرة الشريفة واقفة تودع فى قلق ولدها بركات، والذى كان مع أخويه، منعم ونعيم، ومجموعة من أصدقائهم يجهزون جيادهم فى مرح وصخب.. استعدادا للصيد.. فقال لها الملك زحلان:
-لا تقلقى يا ابنه الشريف، فابنك الذى قتل أبا الجود وخلص الدنيا من شرة، ولا تهزمه السباع، أدخلى ولا تخافى عليه..
قالت خضرة ضاحكة:
-أنا أخاف عليهم جميعا يا سيدى، فلهم جميعا فى قلبى نفس المكانة، إننى أستنشق بعض الهواء..
لكنها ظلت واقفة تراقبهم حتى اختفوا مع انحناءة الطريق، ابتسم الملك ابتسامه العارف أن قلبها أصبح مشغولا على إبنها أكثر، منذ أعلن أنه الأمير من بعده وولى عهده، لأنها كانت تعرف أن جابر وجبير إبنى شقيقته لا يوافقان على ذلك، إلا خوفا من مخالفته، واحتراما لإدارته. وكان يعرف أن معهما الحق فملك بنى زحلان من حق منعم أو نعيم ابنى الملك الحقيقين، لأن بركات مجرد ضيف وغيرب، وأمه تشفق عليه من اليوم الذى ينكشف فيه السر ويعرف حقيقة نسبه!
همس زحلان لنفسه:
-يا للأمهات.. أصبح ابنها فارسا وأميرا ومازالت تراه الطفل الصغير الذى جاءت لنا تحمله بلا حول ولا قوة. كفاك قلقا يا خضرة فله فى قلبى معزة تفوق معزتى لأولادى..
فجأة..
قطع عليه أفكار ضجيج وصياح استغاثة وفزع، فأسرع حراسة يستطلعون الأمر، فرأوا عدد كبيرا من الرعيان، يسوقون أمامهم القطعان، وهو يصيحون رعبا.
-أدركنا يا ملك زحلان أدركنا.. بنو هلال داهمونا وانقضوا علينا كالذئاب والنسور، وطردونا من مراعينا واستولوا على أرضينا حول عين قطف الزهور الغوث الغوث!
ولم ينتظر الملك وصول بركات، بل أمر أن يدق طبل الحرب لتأديب بنى هلال وطردهم. وخرج على رأس جيشه فوجد بنى هلال يقيمون خيامهم كأنهم ينوون الاستقرار فى المكان إلى الأبد.
فصاح فيهم:
-يا بنى هلال.. تعرفون أننى ملك هذه البلاد، وهذه الأرض أرضنا، والمراعى لنا فارحلوا فى سلام، وعودوا من حيث أتيتم. هذا خير لكم لو كنت تعقلون..!
ارتفعت صيحات السخرية والغضب بين بنى هلال.. وأسرع فرسانهم إلى أسلحتهم، ثم تقدم إليه فارس مهيب شاهرا سيفه وقال:
-القحط أصاب بلادنا يا ملك الزحلان، وقضى على الأخضر واليابس، وقد أتينا نطلب رضاكم والسماح بأن نحيا فوق هذه البطاح.. وسوف ندفع لكم العشر من إنتاج أراضينا وخير مراعينا وهذا فضل وعدل يا ملك.
وأثارت طريقة الأمير رزق الهلالى فى الكلام ضحكات ساخرة بين صفوف بى هلال، فاشتد غضب ملك الزحلان.. فقال:
-هكذا يا أمير؟ وبلا استئذان؟! تقتحمون الوديان وتطرودن الرعيان، ثم تتحدث عن الرضا والسماح.. عد من حيث أتيت يا رزق وإلا فليس بيننا سوى السلاح!
واندفع الاثنان كل نحو الآخر كالعاصفة، وعلا بينهما الغبار وثار، وظلا يتبادلان الضرب والطعن حتى انتصف النهار، فخرجت منهما ضربتان فى نفس الوقت، أما ضربة الزحلان فقد أبطلها الأمير رزق بدرعه الحديد، أما ضربة الأمير رزق، فنزلت فوق فخذ الزحلان فجرحها جرحا بليغا، ثم هبطت فوق عنق الحصان فقطعته.
فأسرع إليه رجاله يحيطون به حتى استطاعوا أن يأخذوه بعيدا عن رزق لعلاج جرحه.. واشتعل وطيس المعركة بين الجيشين.
وبينما كان الرجلل يحملون الملك إلى خيمته وصل بركات، فارتمى على صدر الملك معتذرا له، يتأسف لمصابه، وقد اشتد غضبه وحزنه.. ثم اندفع هو وإخوته كالعاصفة، يصيحون صيحات القتال للانتقام من بنى هلال.
غانم الزغبى
قال الراوى..
كان بركات يحس بالذنب لأنه خرج للصيد وترك والده الملك يتعرض للموت، كانت عروقه تنتفض من الغضب على بنى هلال الذين لم يعد لهم عهد ولا ذمة، منذ أصاب القحط أرضهم وحلت بهم الغمة وصاروا فى الصحراء فلولا ضائعة، يهاجمون القريب والبعيد كالضياع الجائعة.
وكان قلبه يمتلئ بالغيظ أكثر.. لأنه تجرأوا على مهاجمة بنى زحلان، الذين تنافل خبر انتصارهم على أبى الجود الركبان. فذاع صيتهم فى الصحارى والوديان.. وخافتهم القبائل فى كل مكان.
وعندما وصل بركات ومن معه إلى أرض المعركة، صاح صيحة ارتجفت لها الجبال وتزلزت من مكانها الصخور، فوقع حجر فى حجم العصفور على رأس رزق الجسور فأثار قلقه وجعله يقف مترددا لا يجيب على نداء القتال، فأعطى هذا الفرصة كى يتقدم غانم الزغبى ويبرز للميدان لمواجهة بركات..
صاح بركات فى غضب، وعيناه يتطاير منهما شرر كاللهب:
-من أنت أيها الدخيل، إرجع وأنقذ نفسك وأرسل رزق الدريدى لأمزقة بيدى..
كذب غانم عليه وقال:
رزق ذهب للصيد يا بركات.. مثلما كنت أنت تلهو فى الفلوات.. هيا يا صغير السن يا جهول.. لترى كيف يصول الزغبى ويجول..
التحم الفارسان فى ضجة ودمدمة ثم افترقا بعد جهد وعناد.. ليظهر غانم مجروحا مضرجا بالدماء.. وبركات يسخر منه ويعفو عنه قائلا:
-إسرع يا طويل اللسان وداوى جراحك بعيدا عن الميدان، هيا فقد نلت منا السماح..
قالها وصاح:
-هل من مبارز منكم يا بنى هلال.. هل من رجال تخرج للقتال.. أم تفضلون انتظار الضيوف.. ليحملوا عنكم السيوف..
خرج إليه الأمير عمار فعاجله بضربه كان فيها الدمار..
فاندفع إليه القاضى بدير فجرحه جرحا بليغا جعله يطلب العفو منه فعفا، ليعود مسود الوجه والقفا..
كل هذا ورزق مستمر كحجر يتأمل بركات وفعاله، وهو يود لو يخرج لقتاله.. لكن شيئا كان يشق قلبه يهمس إليه ألا يفعل.. والناس تتعجب من رزق لأنه لا يسرع ولا يتعجل، وظل الفرسان يخرجون واحدا بعد الآخر لبركات من كل الجهات، فيصرعهم أو يجرحهم.. أو يأسرهم ، حتى زاد عددهم عن التسعين ما بين قتيل وأسير وجريح وطعين.
وكل هذا ورزق ما يزال فى مكانه يراقب.. وكأنه عن الوجود غائب..
فقرر الأمير سرحان أن يخرج ل بركات بنفسه، فلما تقدم إليه، حل بركات عليه.. وطعنه بالرمح طعنة أصابت إحدى رجليه، فعاد مهزوما يعرج ويجر قدميه..
نداء الدم
انتفض رزق غضبا من نفسه، وأسرع يمتطى فرسه.. وسط صيحات الرضا من الجميع فقد كان وحده الكفيل بإيقاف بركات عند حده.. وأن يرسله إلى لحده..!
والتحم رزق وبركات تلاحم الانداد الابطال، واصطدما الجبل بالجبال.. فتبادلا الضرب والطعان.. تارة فوق الخيل، وتارة فوق الرمال.. وطارد أحدهما الآخر بين الصخور، قافزين صارخين كالنمور… يتبادلان الأوضاع والأمكنة، مستخدمان كل احيل والفنون الممكنة وغير الممكنة، حتى تعب رزق وسال العرق كالبحر، وكل بركات.. وكاد أن يفقد سيطرته على الأمر.. لولا أن رزق اقترح عليه أن يستريحا، فأشفق بركات عليه، خاص حين نظر فى عينيه، فأحس شيئا غامضا يقربه إليه..!!
وانهمك كل منها فى إصلاح حاله.. وقد إنشغل باله، متأملا فى قوة غريمه وأفعاله.. وكان الرجال من الجانبين يتأملوا البطلين.. صامتين كأن على رؤوسهم الطير.. وفجأة..
صاحت إمرأة شابة، من بين صفوف بنى هلال فى خوف وفزغ محذرة بركات.
-احترس يا بركات.. إحترس..
وفى لمح البصر، قفز بركات مبتعدا من فوره.. متفاديا ضربة حربة، كانت تستهدف ظهره..
ساد صمت رهيب ثم اندفع الفارسان فى ضراوة يستأنفان القتال، حتى جرح رزق جرحا بليغا على الرمال.. وتقدم بركات الغاضب يريد قطع رقبته، فصاح به نفس الصوت الذى حذره من حربته.
-لا يا بركات.. لا تقتله وكن كريما وإجعله أسير عطفك، وعتيق سيفك.. فهذا أكرم لك وله يا بركات!
لم يكن رزق قد صدق أذنية حين سمع ذلك الصوت فى المرة الأولى.. ولكنه وهو ملقى على الأرض فى صمت، ينتظر حد السيف والموت، تأكد تماما أنه صوت ابنته شيحا.. فتمنى أن يقتله بركات على الفور، هربا من هذه الفضيحة!..
لكن بركات أغمد سيفه فى جرابه ولم يفعل.. واستجاب للصوت الطيب الذى هز قلبه حين رجاه، .. أن يتراجع عن قتل رزق ويهبه الحياة..!

محاكمة شيخا

محاكمة شيخا
عاد زرق إلى معسكره مهاناً، لأن عبداً كبركات وهبه الحياة فصار عتيق سيفه.. وهذا عار عليه ودليل على مذلته وضعفه.. ومن التى كانت السبب فى هذا ؟‍ إبنته شيخاً‍‍ يا للفضيحة‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!. ‍‍‍
زعق رزق الغاضب فى رجاله.
- اجمعوا كل ما تجدون من خشب وحطب،
- واقبضوا على شيحا فسوف نحرقها الآن .. هيا ..
وضرب هذا لتردده، وسبب ذلك لأنه اعترض ، ودفع ذلك الذى حاول أن يتشفع لها.. فمضى الرجال مجبرين يجمعون الأحطاب، بينما اندفع وهو فى ثورة من غضبه إلى حيث النساء، وجر شيحا من ضفائرها، وهو يضربها بكل قسوة.. بينما هى لا تتكلم، ولا تتألم.. وإنما تنظر إليه مباشرة فى عينيه، نظرة تفتت الأكباد.. وكأنه تسأله عن سر ما يفعله الآباء بالأولاد؟‍.
كانت النسوة تبكى وتصرخ… وكان الرجال صامتين فى حزن وغضب بينما رزق يكوم الأحطاب حول إبنته التى ربطها إلى عمود من الخشب‍!
***
وصل الخبر إلى الأمير حازم أمير بنى هلال وأبنه سرحان الذى أسرع رغم جراحه ليمنع رزق، عن فعلته الشنعاء وأمره أن يحل وثاق شيخاً وهو يقول:
- لا تتهور يا رزق ما هكذا تعالج هذه الأمور، لا أحد يحرق ابنته لأنها أنقذت حياته..
صاح رزق فى غضب:
لقد خانتنا .. وفضحتنا .. وظاهرت عدوناً علينا.
قال سرحان.
- صرخت به لتمنعه من قتلك، تعالي لنبحث الأمر معاً على مهل ولا نترك الغضب يعمك
- عن لحقائق..
انتبه رزق فى غضب:
- أية حقائق؟‍!
قال سرحان وهو يضع ذراعه فوق كتفه ليهدئه:
- وهل هناك حقيقة أشد من أبوتك يا رجل؟! حقيقة الدم يا رزق.. لا تجادل فى الحق بالباطل.. أنها ابنتك رغم كل شىء!.
قال رزق:
- لابد من محاكمتها لأنها خانتنا.. وتواطأت مع عدونا بركات، وذلك العبد الذى لا يستحق سوى الموت…
دخل الاثنان فى إلى الخيمة.. وأمر سرحان بعض الرجال أن يجضروا شيخا… وكان كبار بنى هلا كهم مجتمعين حول الأمير حازم الذى كان إلى جانبه القاضى بدير..وأخذ رزق يوجه الاتهام لابنته التى وقفت مرفوعة الرأس تنظر بقوة فى عيونهم مباشرة فتجعلهم يخفضون النظر خجلاً كالمذنبين..
- لماذا فعلت ذلك يا شيخا؟!
قال فى كبرياء.
- وماذا فعلت يا قاضى؟ هل هى جريمة أن أنقذ أبى من الموت.. وانقذ شرفه؟..
صاح رزق بها غاضباً:
- لقد صغرتنى!.. ولوثت شرفى وجعلت هذا العبد يعفو عنى.. فصرت صنيع معروفة..
قال سرحان:
- صمتا يا رزق سيأتى وقتك لتتكلم.
والتفتت إلى شيحا وقال:
أنا أسألك يا ابنتى عن صيحتك الأولى؟ ما الذى بينك وبين بركات لكي تحذريه من ضربة كان من يمكن أن توفر علينا كل هذا القتال؟!.
هزت شيحا رأسها فى غضب وقالت فى سخرية:
- وهل كنت تريد أن يقتل أبى بركات غدراً… ليسقط فى نظر الجميع، العذر يا أمير من شيم الأنذال، ورزق الدريدى ليس نذلاً يا أمير سرحان.
سكت سرحان خجلاً بينما طأطأ رزق رأسه وارتبك الحضور، فلم يستطيع الأمير حازم أن ينطق بكلمة واحدة. بينما فأفأ القاضى، وقبل أن يبلع ريقه أسرعت شيحا تقول:
- لو أن أعينكم ترى، وقلوبكم تحسن وتفوقهم، لرأيتم ما جرى أمامكم وفهمتوه.. ها هو بركات ابن الملك الزحلان.. اسمر اللون رغم أن أخويه منعم ونعيم أبيضان.. فلماذا لم يطرد الزحلان أم ابنه؟ مثلما حرضتم أبى أن يفعل حين ولدت أمى بركات أخي. أننى أتخيله كبيراً ، فى مثل عمر بركات هذا .. وربما أقوى وأشجع منه.. لا يا سادة. أنا لم أخنكم.. لقد خنتم أنفسكم من زمن.. أنا أنقذت أبى، نعم.. ولكنى أنقذت شرفه أيضا، فهو ليس بالغادر الذى يقتل خصمه غيله… فالغدر من صفات الأنذال وحدهم يا بنى هلال.
قالت هذا واستدارت خارجه، ولم يجرؤ أحد على اعتراض طريقها.. فمضت مرفوعة الرأس، وعند الباب توقفت، والتفتت قائلة:
- وأنا فى انتظار حكمك يا أبى.. وتأكد أنك سوف تجدنى مطيعة لك على الدوام.. لكن أعلم أن الجرح الذى أبكانى صغيرة، يوم طردت أمي وأخي، مازال ينزف من قلبى دماً بدلاً من الدموع.. ولكن ماذا نفعل؟! هل للماضى رجوع؟..
خيم على القوم صمت رهيب. ولم يجرؤ أحد منهم على قطع سكونه حتى قال الأمير حازم:
- ليذهب رسول الآن إلى "مكة" : ليسأل الشريف قرضاب عن أخبار ابنته خضرة وابنها…
ثم صاح : يا مرزوق..
أسرع إليه عبد خفيف الحركة كالعصفور.
السمع والطاعة يا سيدى
همس له الأمير:
- طر الليلة إلى " مكة" .. خذ ما تحتاج من هجن سريعة. ولتكن هنا مع الصباح.. ,عليك أ، تحتال كي تتقضى لنا أخبارك " الخضرا"…. هيا لا تضيع دقيقة.. فلا شىء الآن أهم من الحقيقة.. أما أنت يا رزق فأبق عندي الليلة… لا تزداد الأمور سواء .. لا أريد أن تسىء إلى شيخا أفضل فتيات القبيلة.. فهى لم تفعل سوى ما أملته عليها أخلاقها النبيلة…‍‍!

من أبوك يابركات؟

من أبوك يابركات؟
عاد مرزوق من " مكة " بالحقيقة ، التى تقول أن قرضاب الشريف لم ير ابنته خضرة ولا ابنها الذى ولدته منذ خمسة عشر عاماً، فازداد بنو هلال حيرة .. وهنا صاح زرق:
-أحضروا الأمير قايد.
وكان الأمير قايد قد اعتزل بنى هلال وعاش فى أحد الكهوف بعيداً يرعى بضع عنزات يعيش على لبنها، منذ عاد من مهمته التى كلفه بها الأمير رزق، يوم أمره أن يوصل خضرا وابنها إلى أبيها فى " مكة "‍!.
وفى البداية رفض قايد أن يعود إلى هؤلاء الذين أصبحوا لا يقيمون وزنا لصلة الدم ولا يرعون الحرمات.. لولا أن أعرف أن الأمر خطير ويتعلق ببركات وشيحا، وفعاد وأخبرهم بالقصة، وكيف استجاب لما طلبته خضرة التى خافت أن تعود إلى أبيها مطلقة ومتهمة.. فطلبت منه أن يتركها للوحوش والضواري وسوف ينجيها اله لبراءتها.. فأشفق عليها وأخذها بنفسه إلى الملك الزحلان، وقص عليه حكايتها فأكرمها واتخذا من ابنها ابناً له.
قال الأمير حازم فى دهشة:
هل تعنى أن بركات هذا .. هو بركات ذلك؟‍!. هل تعنى أن بركات ابن الزحلان هو نفسه بركات ابن زرق الدريدى؟.. يا العجب.
قال سرحان وهو خجلان:
- إذن كانت شيحا تستجيب لنداء قلبها ، نداء الدم فى عروقها..
انتفض رزق وقد فاضت مشاعره حتى البكاء..
- أنا لا أكاد أصدق، كل هذا هراء.. وكذب وافتراء… هل يعنى ذلك أننى كنت سأقتل ابنى.. ؟ وكان هو أن يقتلنى..؟ وماذا سأفعل عند ما يطلبنى الأن للقتال .. هل سأخذل بنى هلال ..أم قتل ابنى يا رجال؟‍؟‍!.
هز الأمير حازم رأسه فى حيرة وقال:
-الحق معك يا رزق . الأمر صعب.. ولكن عندى لك فكرة ستحسم الموقف تماماً استمع ستخرج إليه .. وعندما تلتقيان.. ما عليك إلا أن تقول له..
ولم يسمع أحد ما قاله بسبب صياح بركات الذى ظهر يوصل ويجول فوق فرسه بالقرب منهم متحدياً أن يخرج إليه أحدهم:
- يا بنى هلال.. هل انقرض فيكم الرجال.. أخرج يا رزق لتمحو عار الأمس ولا تتجبر على النساء والصبايا هيا.. ولا تطمع يا سبب الرزايا فى كرم أكثر من ذلك لقد أبقيت على حياتك بالأمس اكرماً لتلك الحسناء الهلالية.. لكن اليوم أمر آخر …. هيا..
أندفع ( رزق) نحو كالسهم ممتطياً حصانه بعد أنهى حديثه مع الأمير حازم.. وأخذ كل منهما يدور حول الآخر فى تحد… وحين اندفع بكرات نحو رزق أوقفه هذا بإشارة من يده وقال:
- أرجع يا فتى وأرسل من يقاتل الرجال.. فإنى لن أقالت ولداً .. لا يعرف من هو أبوه؟‍!.
صدمت الكلمات بركات لوهلة، ثم استعاد نفسه فصاح غضباً:
- ألم تعد تعرفنى يا رزق؟‍؟‍!. ألم تعد تعرف ابن الملك الزحلان الذى وهبك الحياة بالأمس..
قهقه رزق بصوت عالي.. وقال متمادياً فى السخرية:
- ابن من ؟… لا أيها الغر الأحمق الذى لا يعرف نسبة. لقد ضللوك.. إنك لا تعرف من هو أبوك… أذهب وأسأل أمك خضرة فقد تكون لديها بقية من شجاعة لتخبرك بحقيقة أمرك.. هيا.. فإذا عرفت وتأكد، عد إلينا وسوف يكون سيفى فى انتظارك .. هيا..
ولوى رزق عنق فرسه مثلما اتفق معه الأمير حازم تاركا بركات يتخبط فى الحيرة.. بينما ارتفعت ضحكات ساخرة وصيحات مستهزأ من بين صفوف بنى هلال تحاصرة .. وتسود الدنيا فى عينيه .. وأخذ يسأل نفسه.
- أهذا صحيح؟ .. إذن من أكون؟ إذا كان الزحلان قد ربانى فقط، فمن أين جاءت بى خضرة؟ لن تخبرنى طبعاً بالحقيقة .. إذا كانت قد أخفتها عنى كل هذه السنين 4 .. لا هى لن تفعل ؟‍!.‍‍!. ولكن يجب على أن أجد طريقة، كي تعترف أمي بالحقيقة‍‍!!
قال الراوى..
عاد بركات إلى معسكر بنى الزحلان وهو كسير القلب سقيم الوجدان.. مصمم على معرفة الحقيقة، فأسر فى نفسه فكرة دقيقة… وهو يدور حول نفسه كالنمر الجريح فى خيمته.. لا يجرؤ أحد ممن معه على مقاطعته صمته أو حركته!..
وفوجئ الحاضرون بما حدث.. فأسرعوا فزعين إليه فوجدوه فاقد النفس متوقف النبض فتعالي الصياح من كل جانب ، لقد قتل بركات نفسه دون سلاح.. وسرى الخبر سريان النار فى الهشيم .. حتى وصل إلى خضرا، فانفتحت أمها أبواب الجحيم.. شهقت شقة عميقة وأغمضت عينها ثم سقطت مغشياً عليها‍!
‍‍‍‍‍‍‍‍‌ولما أفاقت، قصوا عليها ما حدث.. من عاد بركات من لقائه بـ رزق كسير الجناح مهزوماً مشوش الوجدان لأن رزق أخبره أمام الجميع أنه ليس ابن الزحلان وأنه لن يقاتل ولداً لا يعرف من هو أبوه.. فعزت عليه نفسه ، وتناول سائلاً سلبه الحياة.. لأنه لا يعرف أباه .. صاحت خضرا وهى تضرب صدرها بقبضتيها:
- أهكذا يا رزق؟ .. هكذا ؟ … تقتل أبنك يا رزق؟
واحتضنت جسد ابنها وهو تنوح:
نعم يا حبيبي القلب يا بركات، رزق هو أبوك.. رفضك صغيراً وطلقنى وطردنى وها هو يحرمنى منك كبيراً فأثكلنى .. قم يا بركات، رزق هو أبوك يا بنى…
ووسط دهشة الجميع .. فتح بركا عينيه وقال:
- لا تبكي يا أمي فأبنك حر ما يزال!!
. شهق الحضور وكاد أن يغشى على خضرة مرة أخرى.. لكن بركات أسرع إليها .. وتلقاها بين ذراعيه.. وأخبرها بسر الشراب الذى شربه لتظن أنه سقط ميتاً.. والذى صنعه بيده منوماً مؤقتاً!
ربت بركات على كتفيها وهو يقبل يدها وقال:
- إطمئنى يا ابنه الشريف.. لن أقتله.. ولكن لابد أن أجعله يدفع ثمن جرائمه فى حقك وحق أبى الملك الزحلان.. لابد أن يعترف بذنبه وأن يخرج الشرور التى بقلبه.. ولكن أكون بركات إن لم أرد لك كرامتك يا أشرف الأمهات.. أما أنا .. فسأظل كما أنا .. ابناً للملك الذى ربانى.. ولن أكون ملكاً لمن رمانى وللمجهول ألقانى...
سوف أحضره حياً إليك وإلى أبى ليعتذر إليكما.. ولن أقتله من أجل خاطر أختى شيحا ذات الصوت الجميل الذى نجانى…!